بقلم: د. محمود خليل
التكنولوجيا التى تحاصر الإنسان من كل اتجاه أحياناً ما تتحول إلى جحيم، يدفع الشخص إلى الهروب منه.
إحساس أساسى يؤدى إلى زيادة وطأة الإحساس بضغط التكنولوجيا على الحياة، يتمثل فى الخروج من مربع «الإنسانية» إلى دائرة «الآلية».
الآلية تعنى ببساطة تعطيل أو تحجيم الحواس الإنسانية عن العمل، واللجوء المستمر إلى الأدوات التكنولوجية لأداء المهام الأصيلة التى كانت تعد جزءاً من عمل الحواس.
الموبايل على سبيل المثال قتل فكرة الحركة وحولها إلى نوع من السكون. فهو الذى يتنقل مع الإنسان، وليس الإنسان من يتنقل معه، هو المتحرك والإنسان ساكن، فأنت تستعيض عن زيارة دافئة تقوم بها لصديق أو قريب بهذا الساحر الصغير الذى يأتيك به بالصوت والصورة وأنت فى مكانك.
الأقدام لم تعد تتحرك كثيراً، لأن كل شىء يمكن أن يؤدى عن بُعد، والأيدى لا تعمل لأن هناك أجهزة تقوم بالمهام بالنيابة عنها، وقِس على ذلك.
علمياً هناك نوع واحد من التكنولوجيا يمكنها أن تضيف إلى الإنسان هى التكنولوجيا التى تؤدى إلى توسيع نطاق عمل الحواس. قيل على سبيل المثال إن وسائل الإعلام التقليدى عملت على تمديد الحواس، فوسع الراديو من قدرة الأذن على الاستماع إلى أحداث وأنغام يصعب على الفرد الوصول إلى مواقعها بسهولة، والتليفزيون قام بالشىء نفسه على مستوى حاسة البصر، حين مكن الإنسان من معاينة أحداث وأشخاص فى كافة أنحاء العالم.
فى هذا السياق تصبح التكنولوجيا مفيدة وقادرة على تحسين شروط الحياة، ولكن عندما تقتل التكنولوجيا الحاسة والإحساس فإنها ترهق صاحبها، فالموبايل يغنيك عن حركة تستطيع القيام بها، ويطاردك بالصخب من جميع الاتجاهات، والأخطر أنه يأخذك كلك بعد أن بات أداة ذكية تتصل بعالم التواصل الاجتماعى، تتحدث منه، وتطاردك وأنت تتحدث بتكتكات لأخبار والرسائل، ثم تغرق فى حساباتك عليه، والنتيجة بدلاً من أن يصبح الموبايل أداة فى يدك، تتحول أنت إلى أداة من أدواته.
فى لحظات معينة يشعر البعض بالرغبة فى الخروج من أسر الأدوات التكنولوجية الحديثة ويحلمون بساعة صفا يخلون فيها إلى أنفسهم، ولو لساعة زمن، يهربون فيها من الساعات الطوال التى يقضونها يومياً أمام شاشة الموبايل.
صخب التكنولوجيا المعاصرة وسعيها إلى أن يصبح الإنسان أسيراً فى قبضتها، تدفع بعض المتضجرين منها إلى العودة إلى التكنولوجيا القديمة البسيطة التى كانت تضيف إلى الحياة ولا تأخذ منها.
استعاد البعض خلال الفترة الماضية قيمة الراديو، وأصبحوا ميالين إلى الاستماع إليه، بعد سنين طويلة من الزهد فيه. الأغرب أن بعضاً آخر، ومن بينهم شباب، أعادوا اكتشاف «البيك آب» القديم، وأصبح غرامهم كبيراً باقتناء الأسطوانات القديمة، والاستمتاع بالاستماع الهادئ للنغمات التى تنساب منها.
كثيرون أصبحوا يفضلون الأفلام الأبيض والأسود، بما تحمله من تميز على مستوى الشكل، وهدوء على مستوى المضمون، يعيشون أمامها ساعة صفا تاركين عالم الصخب وراءهم.
القاعدة العلمية تقول: «لكل فعل رد فعل مساوٍ له فى القدر ومضاد له فى الاتجاه»، كذلك الحال فى التكنولوجيا وفى أى مجال آخر ينتزع من الإنسان إنسانيته.