بقلم: د. محمود خليل
الحدث الواحد يمكن أن يعيد إنتاج نفسه عدة مرات، والشخصية الواحدة التى تظهر داخل حدث معين يمكن أن تتكرر عدة نسخ منها خلال فترات زمنية متباعدة.
لو أنك طالعت قصة «السماء السابعة» فى مجموعة «الحب فوق هضبة الهرم» للمبدع العالمى نجيب محفوظ فسوف تلاحظ كيف وظَّف بعبقرية فكرة تناسخ الشخصيات، انطلاقاً من قاعدة أن كل شخصية ولها روح معينة ترشدها «المرشد الروحى»، وذهب فى قصته البديعة إلى أن عمر مكرم هو مرشد روحى لأنيس منصور، وأحمد عرابى مرشد روحى للويس عوض، ومصطفى كامل مرشد فتحى رضوان، ومحمد فريد مرشد عثمان أحمد عثمان.
كان نجيب محفوظ يبحث عن خطوط التلاقى بين هذه الثنائيات، وهناك فى كل الأحوال ما يجمع بين البشر، فعوامل الوراثة فاعلة، وتشابه الظروف والضغوط قد يؤدى أيضاً إلى تشابه التصرفات بين بشر يعيشون فى أزمنة أو أمكنة مختلفة.
على مستوى عوامل الوراثة قيل قديماً إن الولد سر أبيه، فالابن مرآة تنعكس عليها طبائع وصفات الأب، لكن يحدث فى أحوال أن يتمرد الابن على أبيه، ويرفض ما هو عليه، مثلما فعل نبى الله إبراهيم مع أبيه الذى رفض الاستجابة لدعوة التوحيد ونبذ عبادة الأصنام، وكما حدث مع نبى الله نوح الذى تقدم رحلته الصورة العكسية التى يتمرد فيها الابن على الاستجابة لنداء الإيمان.
هذان النموذجان يقدمان لنا صورتين للتمرد على أوضاع الأب، حين يتعلق الأمر بالقيم الإيمانية. المسألة هنا خرجت عن سياق الرغبة التى تعترى الكثير من الأبناء فى ميراث آبائهم، إلى الاجتهاد فى التمرد، واختيار طريق آخر غير طريق الأب.
فى كل الأحوال نموذج التمرد على الأب هو النادر، ونماذج الشغف بالوراثة هى الأكثر توهجاً فى حياة البشر: «بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ». وإذا كان الإسلام قد أحل للابن وراثة مال أبيه الذى جمعه من حلال، فقد صادر بصورة قاطعة على فكرة وراثة فكر الأب أو نهجه فى الحياة، حين يحيد عن الحق والعدل.
محاولة الابن تكرار رحلة أبيه هى أردأ صور التناسخ، لأنك لا تستطيع أن تكون غيرك، حتى ولو كان غيرك هذا أباك.. فالبشر لا يتكررون، على الأقل فيما يتعلق بتركبيتهم وقدراتهم.
فى المقابل يصح أن تتكرر صور الأداء البشرى على اختلاف الأزمنة والأمكنة ما تشابهت الظروف.. لقد تخلصت شجرة الدر من السلطان توران شاه بنفس الطريقة التى تخلصت بها من السلطان عزالدين أيبك، وتخلص السلطان سيف الدين قطز من منافسيه بنفس الطريقة التى تخلص بها بيبرس البندقدارى من قطز، أما بيبرس فقيل إنه مات مسموماً على يد بعض منافسيه.
إنها صور لأفعال أو ردود أفعال تتكرر حين تتشابه الظروف، لأن الإنسان فى النهاية واحد، وبالتالى قد تتكرر سلوكياته حين يواجه نفس التحديات.