بقلم: د. محمود خليل
ثمة خطاب شائع على مواقع التواصل الاجتماعى يقوم على فكرة تحقير الدنيا، ونصح الناس بالتفكير فى الآخرة، وما أعده الله تعالى للمحرومين فى الدنيا من أوجه إشباع فى جنان الخلد.
كل مؤمن لا بد أن يتذكر آخرته، لكن ليس معنى ذلك بحال أن ينسى دنياه. مسألة نبذ الدنيا والزهد فيها تتصادم مع العديد من الآيات القرآنية التى تحتفى بالحياة، ولا تمنع الإنسان من التمتع فيها، مثل قوله تعالى: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِىَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ»، وقوله تعالى: «وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِى الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ».
خطاب الزهد وتحقير الدنيا يبدو كوميدياً عندما يصدر أو يتكرر على لسان من يظهرون أمام الناس وهم غارقون فى أطايبها ومتعها، أو يعلم الناس عنهم ذلك، وتزداد الكوميديا عندما يوجه هؤلاء خطابهم إلى عبيد الله تعالى المرهقين الغارقين فى المشكلات والمحاصرين بالضغوط.
لا يختلف خطاب وأداء هؤلاء عن الوعاظ والحكائين الذين تحكى عنهم كتب التاريخ، مثل وهب بن منبه، ممن كانوا يترعون أذن السامع بالقصص الخرافى الذى يجمع فى طياته بين الواقع والأسطورة، والحقيقة والخيال، والأخطر نصح من حولهم بنصائح لا يعملون هم أنفسهم بها.
وهب بن منبه هذا عاش يزّهد الناس فى الدنيا، وينشر فى ربوعها «خطاب تحقير الحياة والزهد فيها»، رغم أنه كان ينعم بكل ما فيها، ويفعل كل ما يفعله عائشوها، بما فى ذلك الغضب الذى صنفه كبوابة من بوابات إبليس إلى بنى آدم. يحكى الذهبى صاحب كتاب «سير الأعلام والنبلاء» أن سماك بن الفضل، قال: «كنا عند عروة بن محمد الأمير، وإلى جنبه وهب، فجاء قوم فشكوا عاملهم وذكروا منه شيئاً قبيحاً، فتناول وهب عصا كانت فى يد عروة فضرب بها رأس العامل حتى سال الدم، فضحك عروة واستلقى وقال: يعيب علينا وهب الغضب وهو يغضب! قال: وما لى لا أغضب وقد غضب الذى خلق الأحلام، يقول تعالى: فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنهم».
الاستدلال الذى ارتكن إليه وهب بن منبه دليل على ذلك النوع من المراوغة الذى يعتمده مروجو خطاب التزهيد فى الدنيا. فلله تعالى المثل الأعلى، والمعنى فى آية: «فلما آسفونا انتقمنا منهم» لا يدل على الغضب، بل على الغفلة التى تؤدى إلى عقاب الله العادل. كان عمر بن عبدالعزيز يردد هذه الآية ويقول: «وجدت النقمة مع الغفلة».
الله تعالى أعلم بهم، لكن مؤشرات عديدة تدل على أن كثيرين ممن يتبنون خطاب التزهيد يقولون ما لا يفعلون، ولو فكر هؤلاء فى المبادرة إلى مساعدة غيرهم لكان أجدى لهم وأنفع، ولو اجتهدوا فى إقناع الناس بقيم السعى والصبر والتكافل وغير ذلك من قيم دينية رفيعة لأفادوا أكثر، فتلك مسألة والغفلة عن الذات ثم استغفال الآخرين مسألة أخرى.