بقلم: د. محمود خليل
تعامل العقل الجماهيرى مع واقعة سقوط الطفل المغربى «ريان» -عصفور الجنة رحمه الله- بقدر من الاهتمام بلغ حد الهوس، لم تظهر أمارات ذلك فى منسوب الاهتمام غير العادى بواقعة سقوطه فى البئر، بل بان فى عدة مؤشرات أخرى، من بينها الخلط والنسيان والقفز على حقائق الواقع.
ظهر الخلط فى ميل البعض إلى استحضار قصة نبى الله «يوسف» -عليه السلام- والمضاهاة بين مشهد «يوسف» الطفل الذى ألقى به إخوته فى غيابات الجب «البئر»، و«ريان» الذى وقع فى بئر حفرها أبوه. «يوسف»، عليه السلام، تعرّض لكيد إخوته، وكان كيدهم به رحيماً بعض الشىء، فبعد أن زيّن أحد الإخوة لبقيتهم التخلص منه بالقتل بادر آخر إلى اقتراح إلقائه فى بئر لتلتقطه بعد ذلك إحدى القوافل السائرة وتأخذه معها إلى أرض بعيدة، وهو ما كان. نبى الله «يوسف» لم يقع فى البئر، بل ألقى به إخوته فيها، واستخراجه منها لم يكن أمراً عسيراً، كما شاهدنا مع الطفل «ريان»، حيث تلاعب الإعلام المحلى فى المغرب، وكذا الإعلام العربى ومواقع التواصل بمشاعر الجمهور لخمسة أيام متتالية، حتى أعلن رسمياً وفاته. كان خروج نبى الله «يوسف» من البئر يسيراً وعبر أدوات بسيطة تشهد على الذكاء الإنسانى، تماماً مثلما تشهد واقعة «ريان» على العبث الإنسانى.
نبى الله يوسف، عليه السلام، ألقت به يد إخوته فى التجربة، فى حين ألقت يد مجتمع مهمل فى الحفاظ على حياة الإنسان وعاجز عن إنقاذها بالطفل «ريان» فى التجربة المريرة والحزينة التى انتهت بوفاته، وبدا المجموع الباكى أشبه بمن يقتل القتيل ثم يسير فى جنازته.
النسيان كان حاضراً فى قصة «ريان». فكم من أطفال نسيهم العقل الجماهيرى العربى فى غمرة الانغماس مع المجموع فى البكاء على حال «ريان» والابتهال إلى الله من أجل إنقاذه. تعلق الناس بأمل واهٍ فى إخراج الطفل حياً، ونسوا وقائع قريبة كانت أقصى أمنيات أهالى بعض الأطفال فيها هو استخراج جثامينهم لإكرامها بعد أن استقرت فى قاع الماء أو تحت التراب. يذكّرنى مشهد الدموع المسفوحة على «ريان» رحمه الله تعالى، بمشهد فاتن حمامة فى «دعاء الكروان»، حين صرخت فى وجه أهالى قريتها بعد ذبح أختها على يد خالها، قائلة: «تبكوا علينا». فقد كان عجيباً أن يبكوا على حال الأسرة الذبيحة وهم الذين ألقوا بأفرادها على قارعة الطريق لتنهشهم الذئاب.
الكثيرون قفزوا أيضاً على حقائق الواقع العربى المزرى وهم يتعاطون مع واقعة الطفل المغربى، وظنوا أن الأمر بأمانيهم ودعواتهم للخالق الرحيم، والله تعالى قال فى كتابه الكريم: «لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِىِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا». يد الله الحانية أرحم بالطفل «ريان» من البشر الذين وهنت أعمالهم وضل سعيهم فى التعامل مع قضايا الدنيا.. الحل فى العمل، والله تعالى وعد بمد يد رحمته إلى من يعمل وليس من يتمنى.. الدعاء بلا عمل عبث.. والعبث هو البئر الحقيقية التى سقط فيها «ريان» رحمه الله.