بقلم: د. محمود خليل
كان يجلس أمام التليفزيون يشاهد الاستعراض العسكرى، حيث وقعت الواقعة وغدروا بالسادات.. عندما انقطع الإرسال نادى «نادية» وأخبرها أن قلبه يحدثه بأن أمراً وقع، نظرت إليه بابتسامة مريبة وسكتت، ظنت أن المسألة لا تزيد على هلوسة جديدة من هلوساته الواعية، فعادت من حيث أتت، لكنها استرابت بالفعل فى أمره مع هطول المساء، حين انقطع البث الإذاعى ثم التليفزيونى، وبدأ القرآن الكريم فى التلاوة، وتأكد شكها، حين رأت حسنى مبارك يخرج ببيان ينعى فيه بطل الحرب والسلام الذى اغتالته الأيدى الآثمة يوم نصره. نظرت لحظتها إلى «خالد» ثم قالت:
- نادية: غدروه.. فعلاً غدروه.
- خالد: الله يرحمه.. عمره انتهى لحد كده.. قدره.
شعر «خالد» بحالة توجس وقلق تخيم فوق رؤوس الناس من حوله، لم يشعروا بعيدٍ، ولا فرحة عيد كما تعودوا، الكل كان خائفاً من مجهول قادم، لكن الساعات مرت، دون أن يأتى هذا المجهول، فعاد إلى مواصلة القراءة حول أوضاع مصر بعد مصرع السلطان قنصوة الغورى فى «مرج دابق». كان نائب الغورى على مصر الأمير «طومان باى» يحاول حل ما يواجهه من مشكلات، خصوصاً أعمال السلب والنهب والحرق والتخريب التى كان يقوم بها العربان والمماليك الجلبان بعد أن علموا بمصرع السلطان، فوجه لهم تهديداً صارماً بالكف عن هذه الأعمال، ووضع تصريف الأمور الاقتصادية فى يد «الزينى بركات بن موسى» الذى اتخذ قرارات صارمة بالتسعيرة الجبرية للسلع، وألزم التجار بخفض الأسعار، ورفع العديد من الضرائب عن كاهل الناس.
عرض الأمراء على «طومان باى» السلطنة فى جلسة ضمت العارف بالله الشيخ أبا السعود الجارحى، فأحضر الشيخ مصحفاً شريفاً، وحلف الأمراء الذين حضروا صحبة «طومان باى» بأنهم إذا سلطنوه لا يخونونه ولا يغدرونه ولا يخامرون عليه ويرضون بقوله وفعله فحلف الجميع على ذلك. وأخذ الشيخ العهد منهم بعدم ظلم الناس ورفع جميع المظالم التى أحدثها السلطان الغورى. وقال لهم: «إن الله تعالى ما كسركم وسلط عليكم ابن عثمان إلا بدعاء الخلق عليكم فى البر والبحر، فقالوا: تُبنا إلى الله تعالى من الظلم بعد اليوم». بعد جلسة الاستتابة هذه أصبح «طومان باى» سلطاناً على مصر.
لم يزل «خالد» يقرأ فى الماضى، حتى رن جرس التليفون وردت «نادية»، دون أن يدرى، ثم جرت إلى التليفزيون، وخطفت الكتاب من يده، وقالت له «اتفرج»: ظهرت أحلام الأحمدى بين مجموعة من نواب الشعب، وعلى رأسهم وكيل المجلس وهم يزفون إلى حسنى مبارك قرار المجلس بطرح اسمه لاستفتاء الشعب عليه كرئيس للجمهورية، ورد عليهم قائلاً: «أنا حزين.. بس المركب لازم تمشى».. انتقلت الكاميرا إلى أحلام وهى تبكى، ومعها بكت «نادية» وقالت لـ«خالد»:
- نادية: شوف إحساسها الوطنى عامل إزاى.. مين كان يقول إننا ممكن نشوف أحلام فى المشهد ده.
- خالد (ساخراً): اللى خلانا نشوف غيرها فى نفس المشهد!.
أحداث كثيرة فى الحياة تبدو متوقعة، لكنها تصدم حين تقع، ومقاومة المقدور نوع من السذاجة، حاول طومان باى المقاومة بعد دخول عسكر الترك، اختفى فى الصليبة، اختبأ بين العربان، حتى سلمه أحدهم، لينتهى به المآل إلى الإعدام على باب زويلة. الكل يسير إلى حتفه بقدميه.. ردد «خالد» هذه الكلمات بينه وبين نفسه، ثم تردد فى داخله صوت أبيه الشيخ عبدالعظيم وهو يرتل: « يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ».