بقلم :د. محمود خليل
صانع القرار فى أى موقع أو مجال بحاجة إلى تقدير قيمة «التوازن» وهو يعد قراراته.
التوازن يعنى ببساطة مراعاة المصالح المتعارضة ووجهات النظر المتعددة وردود الأفعال المتباينة للأطراف المختلفة التى يمكن أن تتأثر بهذا القرار، وإذا أخذ صانع القرار ذلك فى الاعتبار مر قراره بدرجة معقولة من الهدوء والقبول، بصورة تؤدى إلى إحداث التغيير المرجو فى الواقع، أما القرار القائم على التشدد والانحياز وركوب الرأس فمهما كان حجم القوة التى تقف وراءه فإنه يصعب فرضه أو إملاؤه على الواقع.
جاء فى قول منسوب إلى الإمام على بن أبى طالب، كرم الله وجهه: «لا تكن ليناً فتعصر ولا قاسياً فتكسر».
اختيار طريق القسوة فى صناعة القرار وتوظيف أدواتها عند ظهور ردود فعل رافضة له لا يقل سفاهة عن اتخاذ طريق اللين والرخاوة سبيلاً فى إصدار القرار فى محاولة لإرضاء أطراف دون غيرها. فى الحالتين يكون الفشل هو المصير.
كثيراً ما يضرب المثل بالحجاج بن يوسف الثقفى فى الشدة والعنف فى إملاء قراراته على من حوله، فهو الرجل الذى اشتهر بالبطش بخصومه أو المخالفين له، لكنه فى المقابل كان قادراً على إقامة الحجة عليهم وهو يقسو، حتى لو كان سبيله إلى ذلك التلاعب بعواطف الجماهير وقلب الحقائق.
تجد ذلك حاضراً فى الخطبة العجيبة التى ألقاها «الحجاج» بعد قتله عبدالله بن الزبير فى جوف الكعبة، حين بدأ الناس يعبرون عن غضبهم من هذه الفعلة، فقد خرج عليهم قائلاً: «أيها الناس إن عبدالله بن الزبير كان من خيار هذه الأمة حتى رغب فى الخلافة ونازعها أهلها، وألحد فى الحرم، وإن آدم كان أكرم على الله من ابن الزبير، وكان فى الجنة وهى أشرف من مكة، فلما خالف أمر الله وأكل من الشجرة التى نهى عنها أخرجه الله من الجنة، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله».
ليس هناك خلاف على أن الخطبة تقدم محاولة حثيثة للتلاعب بالعقول، وتحمل توظيفاً لبلاغة القول لتبرير فعل بالغ القسوة، لكن السؤال: كم من الناس يمتلك هذه القدرة؟
وظف الحجاج مسألة التوازن بطريقته الخاصة فاتخذ قراراً غير متوازن بقتل عبدالله بن الزبير فى جوف الكعبة، لكنه حاول وزنه من خلال المراوغة بالقول، أو شرحه وتبيينه للناس، ولم يحاول تبليعه لهم بالقوة.
الوضع مختلف بالنسبة لمن يتخذ قراراً أو يقدم على خطوة غير متوازنة ثم يتراجع عنها، فى مثل هذه الأحوال يخسر الشخص كل شىء، خصوصاً إذا عجز عن تبريرها أو إقناع الناس بها، بسبب فقر أدواته وعدم امتلاكه الوسائل اللازمة لذلك.
صاحب القرار يصبح فى مثل هذه الأحوال مثل المنبَتّ، لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، فهو لا يقدر على السير إلى الأمام إنفاذاً لقراره، كما يخسر إذا عاد إلى الخلف، لأنه لم يترك ظهراً أو ظهيراً يحميه.