بقلم :د. محمود خليل
الدين حاضر فى القرن الحادى والعشرين، كما كان حاضراً فى ما سبقه من قرون، لكن الإنصاف يدعونا إلى القول إن نوع حضوره اختلف فى القرن الجديد. فخلال العقدين الأول والثانى منه (أى من 2000 - 2020) كان التديّن بمفهومه الجماعاتى هو الأكثر حضوراً، فالخصومات الدولية والمحلية كانت مع جماعات أو تنظيمات تتّخذ من الدين ستاراً أو شعاراً أو فكراً أو محركاً لها، اختر من بين المفردات ما شئت، خاضت الدول والحكومات حرباً ضدها تصفها فى الأغلب بـ«الحرب على الإرهاب». فالحرب كانت على القاعدة أو طالبان أو داعش أو الإخوان أو غيرها من الجماعات التى تسمع عنها.
الحرب ضد الإرهاب نجحت فى تقزيم وتحجيم الكثير من الجماعات والتنظيمات المتاجرة بالدين، مثل تنظيم القاعدة وتنظيم داعش (نسبياً) على سبيل المثال، واستطاعت ترويض بعضها الآخر ودفعها إلى الإعلان عن رضوخها لقواعد اللعب، طبقاً للقواعد الدولية المتعارَف عليها فى الحكم والعلاقات بين الدول، مثل تنظيم طالبان، لكن يبدو أن الصراع ما بين الدول والحكومات من ناحية والجماعات المرتكنة إلى الدين كشف عن أمر أخطر بالنسبة لأصحاب نظرية «الحرب على الإرهاب» يتمثل فى انتشار الفكر المتشدّد بين قطاعات لا بأس بها من الشعوب، مما يُيسر وجود حضانة للتنظيمات والجماعات المتطرفة ورافداً لا ينضب لمدها بعناصر جديدة.
مع هذا الاكتشاف بدأ التفكير فى التعامل مع الفكر الدينى السائد لدى الشعوب (التدين الشعبى) برؤى وخطط وأهداف مختلفة. الجهود فى هذا السياق بدأت منذ مرحلة مبكرة من العقد الثانى من القرن الحادى والعشرين (أى بدءاً من 2011)، لكنها زادت وتمدّدت مع مطلع العقد الثالث، أى بدءاً من 2021.
العنوان الكبير الذى يجمع هذه الجهود هو «تفكيك الفكر الدينى المتشدّد»، وهو هدف لا يختلف اثنان على أهميته. فالتشدّد يتنافى مع روح الأديان وما تدعو إليه من احترام لمعتقدات الآخرين، وتسامح مع الجميع، ودعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتى هى أحسن.
والمتأمل لهذه الجهود يشعر للوهلة الأولى أنه أمام محاولات لتبريد الجسم البشرى الساخن والملتهب بالتعصب الدينى الذى يشعل الحروب والصراعات ما بين الدول، بل وبين المواطنين داخل الدولة الواحدة، والوقوف بصلابة ضد الإرهاب باسم الدين، لكن التأمل المتأنى لآثار ونتائج هذه الجهود يلاحظ أنها تؤدى إلى العكس، فتصب المزيد من الزيت على نار التعصب، خصوصاً عندما تتجاوز ما هو بشرى فى الدين إلى ما هو مقدس، فبدلاً من أن تصحح المفاهيم والفهوم المغلوطة الشائعة بين الشعوب، تبادر إلى الغمز واللمز فى ثوابت دينية مقدّسة.
هذه الجهود أصبحت تثير الحيرة حين يتساءل المرء عن أهدافها، وهل تسعى فعلاً إلى محاربة التعصب الأعمى حتى ينجو العالم من محنة الصراعات التى يحركها الدين فى القرن الحادى والعشرين (قرن الأديان بامتياز)، أم أن هدفها دعم هذه الصراعات وتأجيجها؟