بقلم :د. محمود خليل
أوائل السبعينات كان المصريون ما زالوا محتفظين بالعديد من الأخلاقيات الدافئة التى ميزتهم عبر الحقب السابقة، لكن جدت ظروف أدت إلى ظهور أخلاقيات أخرى باردة، لم تكن ظاهرة أو بارزة من قبل فيما بينهم.
خلال الثلث الأول من السبعينات، كان احترام الدور والموقع سمة غالبة على أخلاقيات المصريين، التلميذ يحترم أستاذه، والأستاذ يستوعب تلميذه، الجار يعرف حقوق جاره ويحرص عليها ما استطاع لذلك سبيلاً، الصغير يوقر الكبير، والكبير يعطف على الصغير، الزوجة تعرف مقام زوجها، والزوج يعرف حق زوجته، الأبناء يبجلون الآباء والأمهات، والوالدان يحتويان أبناءهما، والوطن يعطى والمواطن يضحى بكل ما يملك من أجله، لم تكن الأدوار الاجتماعية خلال هذه الفترة تعرف أى نوع من الاستقطاب لصالح طرف أو ضد آخر.
الأخلاقيات الدافئة هى التى حمت هذا المجتمع من السقوط بعد نكسة 1967، ومكنته من القيام سريعاً وترميم نفسه، بحيث تمكن من الثأر من إسرائيل منذ اللحظة الأولى لعدوانها، فى حروب الاستنزاف، ثم خوض حرب شاملة ضدها فى أكتوبر 1973.
اللافت أن الحدود الفاصلة ما بين هذه الأدوار بدأت فى الذوبان والاهتزاز، عقب انتصار المصريين فى أكتوبر، وكان الفن كما تعودنا هو المرآة العاكسة لذلك، فتراجعت الأخلاقيات الدافئة وتقدمت الأخرى الباردة.
صدفة عجيبة أن يتزامن انتهاء حرب أكتوبر رسمياً بعد الموافقة على وقف إطلاق النار يوم 24 أكتوبر 1973، مع عرض مسرحية «مدرسة المشاغبين» للكاتب الراحل «على سالم». فالحدثان وقعا فى نفس اليوم، ويبدو أن كليهما كان يبشر بتدشين عصر جديد فى حياة المصريين.
قدمت مسرحية «مدرسة المشاغبين» بيان حالة للتحول القادم فى أخلاقيات المصريين، حيث تذوب فى مشاهدها الحدود الفاصلة بين الأدوار الاجتماعية، فالابن يقمع الأب، والأب يحايل ابنه، والأم غير حاضرة تماماً فى المشهد، والتلميذ ينتهك الأستاذ، والأستاذ يبدو عديم الحيلة أمامه، والإدارة عاجزة، بل وتخضع لما يقرره الصغار، والاحترام التاريخى لخصوصية الأنثى يتراجع لحساب التحرش، تتحول «سيدتى الجميلة» إلى «مقرر»، يُكيّل التعليم بـ«البتنجان»، تصبح الرموز التاريخية «مثل رفاعة الطهطاوى وعلى مبارك» مادة للسخرية.
فى أعقاب نصر أكتوبر أيضاً بدأنا نعانى اقتصادياً بصورة موجعة، فشحت السلع فى الأسواق، وارتفعت أسعارها، وأصبحت الطوابير الممتدة طولاً وعرضاً وارتفاعاً أمام الجمعيات التعاونية مشهداً يومياً فى حياة المصريين، وظهرت وظيفة «الدلّالة» و«الدلّال» على أعلى المستويات، من خلال الاستحواذ على سلع الجمعية، وبيعها فى السوق السوداء بسعر أعلى. وشكل الاستحواذ الجذر الذى نبتت فوق شجرته الكثير من الأخلاق الباردة فى حياة المصريين.
امتد الخلل أيضاً إلى الحياة السياسية أواخر عام 1977، حين تحول المجتمع إلى مجموعة من الفئات المتباينة عقب الدفع بالتيارات الإسلامية إلى الشارع السياسى بحجة إحداث توازن مع التيارات الناصرية واليسارية، واختتم هذا العام بزيارة الرئيس السادات لإسرائيل. وكانت النتيجة حدوث حالة من الاستقطاب العنيف بين فئات المجتمع، هيأت الأجواء لمزيد من التمدد للأخلاق الباردة.
العجيب أن زحف «الأخلاق الباردة» بدأ بعد ساعات قليلات من نصر أكتوبر، وتمدد وتفرع بعد سنوات معدودات منه، وكأن هناك شبحاً خفياً لا يريد للمجتمع المصرى أن يستثمر النصر الذى أعاد الثقة لأبنائه فى نهضة أشمل.