بقلم: د. محمود خليل
مشكلة بعض المهوِّمين بما يطلق عليه «قضية التنوير» أنهم يفسرون حالة الارتباك الفكرى والسلوكى العام التى نعيشها بردِّها إلى بعض الأفكار والممارسات الدينية الشائعة بين المصريين.
الحقيقة غير ذلك، فعندما يتوقف بعض التنويريين -أو من يوصفون بذلك- أمام ظاهرة بث القرآن الكريم من ميكروفونات المساجد قبل وبعد الأذان، ويرون فيها سلوكاً مزعجاً لا يتسق مع جلال القرآن الذى دعا رب العزة الناس إلى الاستماع والإنصات له، فإنهم يركزون بذلك على نقد الحلقة الأضعف، وينسون أمرين: الأول أن الإزعاج سلوك عام يرتبط بالثقافة السائدة فى المكون الثقافى المصرى، وليست ميكروفونات المساجد -كما يذهبون- مصدره بالأساس، بل له مصادر أخرى عديدة. على سبيل المثال بعض المنزعجين من ميكروفونات المساجد أحياناً ما يقتنون كلاباً فى بيوتهم تنبح ليل نهار بشكل يثير إزعاج من حولهم، وما لا تفعله كلاب البيوت تقوم به الكلاب الضالة التى تنتشر فى بعض الأماكن وتزعج البشر بصوتها. هناك أيضاً ظاهرة إطلاق الصواريخ والشماريخ فى الأفراح، يستوى فى ذلك أفراح البسطاء مع أفراح المقتدرين، بما تحمله هذه الظاهرة من إزعاج.
أمثلة أخرى عديدة يمكن أن نضربها كمصادر للإزعاج بعيداً عن ميكروفونات المساجد. وكل ما أفهمه فى هذا السياق أن الله تعالى أمرنا بالإنصات إلى القرآن، ومسألة الاستماع إلى كلام الله مسألة فردية حتى يتحقق فيها شرط الإنصات. هذه النقطة أتفق معها، لأن القرآن له احترامه.
تعال بعد ذلك إلى الحديث عن فرض الحجاب على بنات الإعدادى. أظن أن وزارة التربية والتعليم تشرف على كل مدارس مصر، ولا يوجد فى حدود علمى مدرسة تفرض ارتداء الحجاب على التلميذات، هناك من يرتدينه بإرادتهن، وأظن أن ضجر بعض التنويريين من ذلك لا يستقيم مع إيمانهم بالحرية كقيمة تنويرية.
أما الحديث عن أن الطفل يقرأ ويحفظ القرآن الكريم دون أن يفهم معناه، فيؤشر إلى أن قائله لم يفتح أى كتاب تربية دينية، لأنه لو فعل فسيجد أن كل الآيات المقررة على الطلاب مشروحة وموضح معانيها. ولو أخذنا الأمور بهذا الشكل فعلينا أيضاً أن نراجع العديد من القصائد المنتمية إلى العصر الجاهلى أو مرحلة الشعر الكلاسيكى بل وبعض الكتابات المعاصرة ونشطب عليها.
وإذا تركت التربية الدينية إلى حصص الرياضة (الألعاب) والموسيقى فستجد أنها قائمة فى مدارسنا حتى اللحظة. ربما لا تحظى هذه الحصص بما تستحقه من اهتمام من جانب القائمين على المدارس، لكن ذلك يرتبط بظاهرة تعليمية عامة، فالحصص فى كل التخصصات لا تحظى بالاهتمام المطلوب، فى ظل اعتماد الكثير من المعلمين والتلاميذ على الدروس الخصوصية كوسيلة للتعلم، وبالتالى إذا أردنا أن نوجد اهتماماً عاماً بالرياضة والموسيقى فعلينا أن نجعلها مواد نجاح ورسوب، حتى تدخل ضمن منظومة الدروس الخصوصية.
ما أستغربه هو الحديث عن «حصص الرقص»، فلا يوجد فى مدارسنا حصص مخصصة لذلك. ولست أفهم أى نوع من الرقص هذا الذى يمكن أن نقرره فى المدارس؟
النهضة التى نرجوها لبلادنا لن تتحقق بإزاحة أو تحقيق ما ينادى بعض التنويريين بإزاحته أو تحقيقه. المسألة أعقد من ذلك بكثير، وقد كررت أكثر من مرة أن التنوير مسألة تتعلق بالأساس بالمساهمة فى الإنتاج العلمى والتكنولوجى المعاصر، وتبنِّى قيم التفكير العلمى، ونشر الثقافة العقلانية، وقيم الحريات.
لن نصل إلى حالة التنوير بالرقص والرقاصين.. يشهد على ذلك تجربتنا!