بقلم: د. محمود خليل
بنبرة غاضبة صرح لاعب الكرة الكاميرونى الشهير «روجيه ميلا»: «إذا لم يكن المصريون أو المغاربة أفارقة فليلعبوا لأوروبا أو آسيا أو لأى شىء آخر»، وذلك فى سياق رده على بعض المقترحات الخاصة بتأجيل كأس الأمم الأفريقية فى دورتها الحالية بسبب تفشى فيروس كورونا، ورفض الكثير من الأندية الأوروبية السماح للاعبيها الأفارقة بالانضمام إلى منتخباتهم فى منتصف الموسم.
ليس «ميلا» الأفريقى الوحيد الذى يتبنى مثل هذه النظرة لدول الشمال الأفريقى، ومن بينها مصر، ويعتبرها دولاً ترنو بنظرها إلى خارج القارة الأفريقية.
نظرياً، بلدنا مصر من الدول التى تجد لنفسها العديد من الامتدادات، فهناك الامتداد العربى، والامتداد الأفريقى، والامتداد اليورمتوسطى، وتاريخياً هناك الامتداد الفرعونى، ومعنوياً هناك الامتداد الإسلامى وهكذا.
قبل يوليو 1952 وبعدها كانت هذه الامتدادات حاضرة وبقوة، فالدولة الملكية امتدت بحدودها إلى أعماق أفريقيا، حين كانت مصر والسودان دولة واحدة، كما كنا من آخر الدول التى خرجت من تحت راية الخلافة العثمانية عام 1924، وعندما احتل الصهاينة أرض فلسطين تزعمت مصر الجيوش العربية التى زحفت لتحرير فلسطين، وقبل 1952 ظهرت دعوة عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين الخاصة بانتماء المصريين إلى ثقافة البحر الأبيض المتوسط وأوروبا، وذلك فى كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر»، وبعد القطيعة مع الدول العربية عقب توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل عام 1979 خرج توفيق الحكيم وبشّر بالانتماء الفرعونى للمصريين، وأن مصر أمة وحدها تكافئ الأمة العربية، وكانت هذه الدعوة على النقيض من الاتجاه القومى العروبى الذى تبناه الرئيس جمال عبدالناصر، أما دعوات استعادة الخلافة فقد شكلت مرتكزاً من مرتكزات الإسلام الجماعاتى.
الشخصية المصرية بطبيعتها تمتاز بتنوع العناصر التى شاركت فى تكوينها، وهى تظهر كشخصية ثرية حين تحاول الاستفادة من كافة عناصر تكوينها، وتفارق روح الثراء فى الحالات التى تنكفئ فيها على جذر واحد من جذورها لتتحلق حوله، وتهمل جذوراً أخرى مهمة ترتبط بها مصالحها الحالية أو المستقبلية.
نحن نعيش عصراً تراجعت فيه الأيديولوجيات النظرية أمام حسابات المصالح، وقد عاشت مصر زمناً طويلاً حريصة كل الحرص على مصالحها فى أفريقيا، وهى مصالح مرتبطة فى الأصل والجوهر بالنيل، مصر الملكية حرصت على وضع قدم ثابتة ومرتكزة للدولة داخل أفريقيا، وفى عصر مصر الجمهورية والثورات التحررية تمكن الرئيس جمال عبدالناصر من بناء علاقات شديدة المتانة مع الدول الأفريقية حمت مصالح مصر داخل القارة، وحرص السادات من بعد على بناء علاقات مصالحية قوية مع السودان وعلاقات ردع محسوسة مع الدول التى تهدد أمننا المائى.
اختلف الأمر خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضى وما تلاهما، حيث فقدت مصر البوصلة التى تمكنها من التحرك الفاعل والمؤثر فى أفريقيا، وظنى أنها ما زالت تفقد هذه البوصلة حتى الآن، والدليل على ذلك تصريحات روجيه ميلا، والمشكلة أننا نفقدها فى ظرف شديد التعقيد نحن أحوج ما نكون فيه إلى الدعم الأفريقى فى ملف سد النهضة.
ضياع البوصلة كان أساسه فى تقديرى الإهمال من ناحية، والحسابات السياسية غير الدقيقة من ناحية أخرى، والتحديد غير الدقيق لتحيزاتنا مع أو ضد الأطراف التى تتصارع سياسياً داخل بعض الدول الأفريقية من ناحية ثالثة.
هذه العوامل الثلاثة أفقدتنا البوصلة التى يمكن أن نتحرك بها حتى مع أقرب الدول الأفريقية إلينا على مستوى التاريخ والجغرافيا.