بقلم: د. محمود خليل
كم من الأرض يحتاج الإنسان؟.. سؤال طرحه الأديب الروسى الراحل ليو تولستوى فى قصة قصيرة، وأجاب عنه من خلال شخصية أحد الفلاحين الروس الذى عاش يحلم بامتلاك أرض بلا حدود، أفاء الله عليه بقطعة أرض كافية تقيم أوده وأود عائلته، لكنه ظل يطمع فى المزيد، علم أن هناك مكاناً يعيش فيه ناس طيبون، الأرض عندهم خصبة وشاسعة وبـ«بلاش»، طار إلى هناك، وعرض عيهم الشراء، أخبروه أن سلو بلدهم فى البيع أن يقوم الشارى برسم حدود الأرض التى يريدها، بدءاً من شروق الشمس حتى غروبها، بشرط أن يعود إلى النقطة التى بدأ منها قبل الغروب.
بدأ الفلاح اللعبة وأخذ يحد الحدود، وكلما تجسّدت أمامه قطعة طمع فى الأكثر، فظل يجرى ويجرى حتى شرعت الشمس فى الغروب، هنالك تذكر الشرط الذى يقضى بعودته قبل الغروب، فهرول عائداً، حتى وصل إلى نقطة البدء، وقد بلغ به التعب مبلغه، وشح ماء الحياة فى بدنه، فخر صريعاً عند النقطة التى شرع يجرى منها، وتولى أحد الفلاحين البسطاء دفنه فى البقعة التى قسمها الله تعالى له من الأرض.
إنها قصة الإنسان الذى يغلبه الشوق إلى الحياة عن فهم معنى الحياة وحكمة العيش، فيشغله الجرى واللهاث عن إدراك القيمة الحقيقية التى يجب أن يخلص الإنسان بها من حياته، والمتمثّلة فى إحياء إنسانيته عن طريق إحياء إنسانية غيره، وليس ثمة من وسيلة يستطيع الإنسان أن يحقق بها هذه الغاية سوى «الاستقامة».
يقول الله تعالى فى سورة هود «فاستقم كما أمرت»، ويروى أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال إن هذه الآية من السورة الكريمة شيبته: «شيبتنى هود وأخواتها». الاستقامة تعنى ببساطة عدم التفريط أو الإفراط فى أمور الحياة، والارتكان إلى بوصلة وحيدة فى تحديد السلوك هى الضمير.
إذا فعل الإنسان ذلك فسيجد نفسه يعيش حياة مستقيمة معتدلة متزنة متوازنة، فيعرف كيف يصيغ سلوكياته وكذلك علاقاته بالآخرين، فيخرج من الرحلة بالثمرة الحقيقية التى لا تعدلها ثمرة، فيجد من حوله من يحرص عليه لذاته، وليس لجاهه أو نفوذه أو ماله أو خلاف ذلك، إنه بذلك يكون قد تمكن من صُنع الصعب، حين يجد نفسه وقد أحيا إنسانية من حوله، لأنه ببساطة عرف كيف يحيى إنسانيته.
فى المقابل يبقى الإنسان الذى يعطل ضميره ويمنحه إجازة سادراً فى الجرى واللهاث حتى يحوز المزيد من الأرض، ويمضى به قطار الحياة ليكتشف فى اللحظة الأخيرة أنه كان يجرى وراء وهم أو سراب.
لست أقصد بهذا الكلام أن يتوقف الإنسان عن السعى والتحقيق فى الحياة، فذلك أمر مطلوب من أجل تطوير الذات والواقع، المهم هو التوازن، وعدم الإفراط أو التفريط، أو تحقيق المغانم على حساب الآخرين، أو نسيان الآخرين، فى ظل الانشغال بالذات.
العاقل من يعرف كيف يتوازن فى الحياة بحيث لا يصبح «منبتاً».. لا أرضاً قطع.. ولا ظهراً أبقى.