بقلم :د. محمود خليل
الذاتية أحد ملامح الزمن القادم على المستوى الاجتماعى. وظنى أن ثمة فارقاً بين الفردية والذاتية. الفردية تعنى ببساطة إحساساً لدى الفرد بأن بمقدوره أن يقوم بنفسه بعيداً عن مساعدات الجماعة، وأنه قادر على إملاء إرادته على الجماعة حين يريد، أما الذاتية فتعنى الغرق فى الذات والتمركز حولها، وتفضيل مسألة الانعزال عن الآخرين على فكرة الاندماج معهم.
الانكفاء على الموبايل يمثل أبرز ملامح الذاتية التى باتت تميز الأفراد خلال الفترة الأخيرة، فتجد أحدهم أو إحداهن مكفياً على الموبايل بالساعات يقلب فى الصفحات والتعليقات والصور والفيديوهات دون أن يأبه بالعالم المحيط به، حتى فى اللحظات التى يكون فيها وسط جماعة، تجده ترك الجميع فجأة وسحب الموبايل وسقط فى براثنه دون اكتراث.
إنه نوع من التمركز حول الذات يعطل الفرد عن العيش مع غيره. فالعيش ليس تجمعاً فى مكان (شقة أو محل عمل أو نادٍ أو خلافه)، العيش تفاعل بين بشر يقوم كل فرد فيه بتبادل أشجانه وأشواقه وأحزانه وأفراحه بشكل مباشر مع الآخرين، لتصفو نفسه عبر مشاركتهم معه أو مواساتهم له، ويستريح بالاً حين يمارس نوعاً من البث لما بداخله، أو يستمع بتفاعل واهتمام مع البث الذى يستقبله من الآخر.
التفاعل الإنسانى الواقعى يعنى الاندماج ما بين مجموعة من البشر، يحس فيه الفرد بالتعاطف مع الآخرين، وتحويل التعاطف إلى فعل، إذ يشعر بقيمته وتحققه كإنسان عبر الاندماج فى المجموع.
قد يقول قائل إن التمركز حول الموبايل والغرق عبر مواقع التواصل الاجتماعى يحقق هذا النوع من التفاعل مع الآخرين، ولكن عبر أساليب افتراضية لا تقل أثراً عن صور التفاعل فى الواقع الحقيقى.
هذا الكلام ليس حقيقياً بالمرة، لأن التفاعل الذى يظن الفرد أنه يتحقق افتراضياً عبر الإنترنت لا يحقق الاندماج بين الأفراد، بل على العكس يؤدى إلى التفكيك والتفكك، وذلك لسببين: السبب الأول أن الفرد وهو يبث تعليقاته أو أشواقه أو متاعبه على الإنترنت يبحث عن أى مستوى من مستويات تمجيد الذات أو الاحتفاء بها أو التعاطف معها من جانب الآخرين، وهذا الاهتمام بالتمجيد أو الاحتفاء أو التعاطف يسوق الفرد فى بعض الأحوال إلى الدفع بكل ما هو تافه أو سطحى فى حياته، حين تنقح عليه ذاته ويجد أن ثمة حاجة إلى دعمها بـ«اللايك أو الشير أو التعليق أو الإيموشن» وغير ذلك، ويتورم موضوع الذاتية أكثر عندما يقوم الفرد بهذه الممارسات عمال على بطال.
السبب الثانى أن سباق «اللايك والشير والإيموشن» يدفع الفرد فى بعض الأحوال إلى المقارنة بين عداد تفاعل الآخرين مع ذاته ومع عداد تفاعلهم مع غيره، وقد توجعه ذاته إذا وجد أن الآخرين أعلى أو أربح منه فى هذا السباق.
البحث عن التمجيد أو الاحتفاء أو التعاطف وسباق المقارنات يعنى أن الفرد أصبح «ذاتاً» أكثر منه موضوعاً، و«سنجل» أكثر منه جماعة، ولك أن تتصور مستقبل العلاقات الأسرية بين الأبناء والآباء والأمهات، وأفراد العائلة الواحدة، ومستقبل الصداقات، والأخطر الموقف المستقبلى لشباب وبنات اليوم من إقامة حياة زوجية قائمة على الاندماج والتفاعل الحقيقى خلال العقود القادمة.