بقلم: د. محمود خليل
لماذا يعيد البشر تكرار أنفسهم؟.. بعبارة أخرى لماذا تحتشد كتب التاريخ وكذا الواقع، بشخصيات تتشابه فى أفعالها أو أسلوب أدائها، رغم اختلاف الأزمنة والأماكن التى ظهرت على مسرحها.. هل المسألة تناسخ أم استنساخ؟
أحد الوزراء المشاهير فى عصر الخديو إسماعيل، وهو الوزير «إسماعيل صديق» تمكن من جمع ثروة طائلة عن طريق استغلال نفوذه، يتحدّث المؤرخ «إلياس الأيوبى» أنه حازها بطرق فظيعة وغير مشروعة، وبات ما لديه من مال يزيد عما يمتلكه أى أمير من أمراء الأسرة العلوية، مما جعله مثار حسدهم، فحرّضوا الخديو إسماعيل عليه، لكن الرجل لم يستمع إليهم إلا بعد أن خربت «مالطة»، فانتقم منه بإغراقه فى النيل.
تكرّرت صورة الوزير إسماعيل صديق فى أزمنة وسياقات كثيرة مختلفة، وتجلّت من جديد فى نماذج اعتمدت على استغلال النفوذ أو التربّح من موقع عملها. وأظن أنك لن تجهد نفسك كثيراً فى استدعاء نماذج تثبت لك واقع الاستنساخ على هذا المستوى.
ليست كل حالات الاستنساخ سيئة، إذ يحدث أن تجد نماذج مضيئة يتم استلهامها فى أزمنة أخرى لاحقة، وعلى مسارح ظرفية أو مكانية مختلفة. على سبيل المثال الكاتب الصحفى أحمد حلمى الذى تألق نجمه فى عصر الخديو عباس حلمى، وكان صحفياً بجريدة «اللواء»، التى أصدرها مصطفى باشا كامل، لتعبر عن أفكار الحزب الوطنى، ومن خلالها وغيرها من الصحف وجّه «حلمى» نقداً لاذعاً للأسرة العلوية، وعلق على ما تنفقه من أموال تجمعها من دم ودموع الشعب، وعُوقب على ذلك بالسجن.
تستطيع أن تضع يدك على الكثير من الكتاب الصحفيين الذين استوعبوا دورهم فى العمل لحساب شعوبهم وأوطانهم، وقدّموا نماذج شبيهة تكاد تكون مستنسخة من تجربة «أحمد حلمى»، وهو بالمناسبة جد الصحفى والشاعر المبدع «صلاح جاهين»، وأطلق اسمه على واحد من أشهر ميادين مصر «ميدان أحمد حلمى».
المطرب الشعبى شعبان عبدالرحيم -رحمة الله عليه- استنسخ ذات يوم تجربة الصحفى أحمد حلمى واستدعاها بشكل عجيب فى واحدة من الأغانى التى قدّم بها نفسه للمصريين، أغنية «أحمد حلمى اتجوز عايدة.. كتب الكتاب الشيخ رمضان».. وأحمد حلمى وعايدة والشيخ رمضان -كما تعلم- أسماء لميادين.. وعندما اصطادت الأغنية زبونها، بادر «شعبان» إلى استدعاء أحمد حلمى ثانية من خلال أغنية تقول: «أحمد حلمى وعايدة اخوات.. واللى قالوه الناس إشاعات»!.
بعدها استنسخ أحدهم لعبة الأغانى للميادين، فغنى «عادى فى المعادى».. ومن بعده انطلق أصحاب المهرجانات إلى الغناء للميادين «من السبتية الشرابية».
إنها لعبة الاستنساخ وتكرار النماذج والتجارب البشرية بصورة تثير العجب.. وكما يحدث الاستنساخ فى الجيد يحدث فى الردىء.. وكما يتم على مستوى النماذج المشرقة، فإنه يقع أيضاً على مستوى النماذج الفاسدة.
علمنا نبى الله داوود «الجامعة» -عليه السلام- هذه الحقيقة التى أدركها بحكمته العميقة، حين قال: إن وجد شىء يُقال عنه: «انظر هذا جديد»، فهو منذ زمان كان فى الدهور التى كانت قبلنا.. فليس تحت الشمس جديد.