بقلم :د. محمود خليل
جمعتنى العديد من اللقاءات بالإعلامى الكبير الراحل محمود سلطان، وهو رجل عاش شبابه فى الستينات، أذكر أننى سمعت منه ذات مرة وصفاً لأهم ما ميز الجامعات خلال هذه الحقبة مقارنة بما بعدها، قال فيه إن ما أتيح أمام الطلبة من سلع استهلاكية فى ذلك الوقت لم يكن يمتاز بأى تفاوت، وكان الطالب الفقير والغنى يستطيعان شراءه، فالمتاح على مستوى الطعام هو ساندويتشات الفول والطعمية، أو الجبن بأنواعها المختلفة، والمشروبات: كوب الشاى أو فنجان القهوة أو زجاجة المياه الغازية واحدة، وكلها متوافرة بسعر يقدر عليه الفقير والغنى.
المعنى أن الوضع فى الستينات لم يشهد تفاوتاً فى المتاح من السلع الاستهلاكية يحوّل هذا الجانب المعيشى إلى ساحة للمنافسة بين الطلاب تبرز ثراء من يملكه، وتكشف عجز الفقير.
جرى ماء كثير فى النهر عند الانتقال إلى السبعينات، فالتحول من الثقافة الاشتراكية إلى ثقافة الانفتاح أدى إلى إتاحة الفرصة أمام من يملك المزيد من المال كى يتميز على محدود القدرة فى الملبس والمأكل والمسكن ووسيلة النقل، لأن المنافسة التى دخلت فى مجال الاقتصاد انتقل صداها إلى السلوكيات الاجتماعية.
لا أقصد بالطبع ترجيح الثقافة الاشتراكية ونعتها بالمثالية مقارنة بثقافة الانفتاح المحكومة بالمنافسة، أو القول بأن البيئة الأخلاقية المرتبطة بالاشتراكية أنقى وأكثر دفئاً من البيئة الأخلاقية المصاحبة لليبرالية، لأن التجربة تقول إن هناك مجتمعات أشد انفتاحاً من مصر السبعينات وما بعدها وأكثر منها ليبرالية ترتكن على منظومة أخلاقية متينة الأصول والفروع، ومن عاش فى أى مجتمع غربى لمدة من الزمن يدرك معنى ما أقول.
مجتمع الثقافة الاشتراكية اعتمد على الشح، فلم يكن متاحاً أمام كثير من المصريين فى الستينات سوى السلع المعيشية التى توزع عليهم فى التموين، ومن يريد البحث عن غيرها فى الأسواق سيلقى صعوبة كبيرة.
الشح أو ندرة المتاح قد يكون له تأثيرات إيجابية على صاحبه، فيعلمه الزهد والاكتفاء بالقليل، ويدفعه فى بعض الأحوال إلى الشعور بغيره، والميل بما يفيض عن حاجته على من يحتاج. زمان كان أى نقص فى أى سلعة تموينية، مثل الزيت أو السكر أو الأرز يُجبر مباشرة عن طريق سلف «كوباية» ممتلئة بالسلعة المطلوبة من الجيران.
مجتمع الانفتاح فى السبعينات كان على عكس ذلك، إذ لم يعد الشح سيد الموقف، بل باتت «الإتاحة» هى السائدة، فمنح القطاع الخاص الفرصة للعمل، وفتح باب الاستيراد، وإنشاء المدينة الحرة فى بورسعيد، أدى إلى توافر كل شىء فى الأسواق لمن يملك ثمنه، وليس ثمة من خلاف على أن سعر المستورد غير المحلى، وبالتالى أصبحت المساحة المتاحة أمام من يريد المنافسة وإثبات القدرة المالية كبيرة، ونتيجة ذلك معلومة بالضرورة وتتمثل فى «خلق النزعات والتطلعات الاستهلاكية».
الفارق بين حال الأخلاق فى الستينات والسبعينات هو ببساطة الفارق بين حال آباء اليوم الذين كانوا أطفالاً وصبية فى تلك الحقبة وكانوا يأكلون الكتب الدراسية بأسنانهم ويتفوقون دون دروس خصوصية أو كتب خارجية، وحال أبنائهم أو أحفادهم المتعثرين دراسياً اليوم رغم إتاحة كل سبل النجاح أمامهم.
شح الماضى أورث أصحابة تفوقاً.. ووفرة الحاضر أدت إلى العكس.