بقلم :د. محمود خليل
الدين أداة أحياناً ما يميل المتصارعون على السلطة إلى توظيفها، كل فى مواجهة الآخر.
وجه الدين كان حاضراً بقوة -على سبيل المثال- فى صراع الزعيم أحمد عرابى مع الخديو توفيق على السلطة. والسر فى ذلك كان انقسام الشعب ما بين مؤيد لعرابى وحركته الشعبية التى نادت بالحكم النيابى وحق الشعب فى تقرير مصيره، ومدافع عن «توفيق» ومعارض لعرابى، يرى أنه أربك أحوال البر، وأن المحروسة لو احتُلت فستكون أفعاله السبب المباشر لذلك، كان هذا الفريق من المصريين يناصرون الخديو ويتبنون وجهة نظره.
حاول كل طرف من أطراف الصراع توظيف الدين لتثبيت فكرة التأييد لدى فريقه، وهزّ قناعات الفريق المضاد له.
فعندما أصدر توفيق قراراً بعزل «عرابى» من نظارة الجهادية والبحرية، لم يسكت الأخير، فدعا إلى مؤتمر عام للقوى الوطنية، اتخذ قراراً سياسياً خطيراً، استند فيه إلى «فتوى شرعية». فقد قرر أعضاء المؤتمر عزل «توفيق» من خديوية مصر بناء على فتوى شرعية من الشيخ العارف بالله شيخ الإسلام والمسلمين السيد محمد عليش وشيخ الإسلام الشيخ حسن العدوى، كما يذكر أحمد عرابى فى مذكراته. ونصت الفتوى على مروق الخديو توفيق باشا من الدين مروق السهم من الرمية لخيانته لدينه ووطنه وانحيازه لعدو بلاده!
الكلام كان خطيراً على المستوى النظرى، لكن عملياً لم يكن بمقدور عرابى ومشايخه تفعيل هذا القرار على الأرض.
رد الخديو على ذلك ببيان جديد يؤكد فيه عزل «عرابى» ويهدد من ينحاز إليه من الجنود أو الأهالى بالحرمان هو وأولاده من جميع الرتب والرواتب ومعينات التقاعد وسائر الامتيازات التى كان متمتعاً بها.
فردّ «عرابى» على الخطوة ببيان بعث به إلى رؤساء الجيش والمسئولين بالمديريات وجميع فروع الحكومة، يدعو فيه إلى العمل بالتوجيه القرآنى الداعى إلى إعداد كل ما هو مستطاع من قوة لقتال الأمة الإنجليزية التى اعتدت على البلاد طمعاً وشرهاً.
بعدها انطلق خطباء الثورة مثل الشيخ أحمد عبدالغنى والشيخ محمود إبراهيم وعبدالله النديم يلهبون حماس الناس ويحرضونهم على الجهاد ضد الإنجليز.
تحمَّس قطاع من الأهالى أشد الحماس دون أن يدركوا الأوهام التى يعيشون فيها. وظنوا أنهم منصورون بالدعاء، فلهجوا فى الشوارع، كما يسجل «عرابى» فى مذكراته: «اللهم إن تهلك هذه العصابة الموحدة -يقصد عرابى ومن معه- فلن تُعبد بعدها فى مصر. اللهم عليك بالإنجليز. اللهم اشدد وطأتك عليهم، وأنزل بهم بأسك الذى لا ترده عن القوم المجرمين، اللهم إنا نجعلك فى نحورهم ونعوذ بك من شرورهم، اللهم احصدهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا ترد منهم أحداً، إنك على كل شىء قدير»!
فى المقابل أخذ توفيق يلح على السلطان العثمانى -مدعوماً من الإنجليز- لإصدار فرمان يعلن فيه عصيان «عرابى» لخليفة المسلمين، حتى استجاب الباب العالى، وما إن صدر الفرمان حتى بدأ الكثيرون، بمن فى ذلك بعض المؤيدين للزعيم، يتشككون فى سلامة الموقف الدينى لعرابى، فانفضُّوا من حوله وكانت الهزيمة.
استطاع الخديو حسم اللعبة لصالحه عندما نزل بـ«الكومى» الذى قشّ ورق عرابى.