بقلم :د. محمود خليل
زمان كتب توفيق الحكيم مسرحية بديعة عنوانها «السلطان الحائر» تتحدث عن سلطان من سلاطين المماليك فرضت الظروف بيعه لأحد الأشخاص ليتولى عتقه لوجه الله، حتى ينال حريته ويصبح أهلاً للحكم، بعد أن ثبت أن سيده القديم لم يعتقه.
وقع السلطان خلال المزاد الذى انعقد لبيعه فى فخ «غانية» اشترته ورفضت عتقه ومنحه صك حريته، إلا بعد أن يعيش فى كنفها ليلة.
من ناحيتها، كانت الرعية مستمتعة بالمشهد المثير، وبتلك الغانية المتّهمة فى نظر من حولها، واستغلت الليلة التى قضاها السلطان وهو عبد لها لإثبات براءتها، وعلّمته فيها أن العادل لا يأخذ بالشبهة.
السنون مرت والدنيا تبدّلت، وخرج السلطان من حيرته، وبات الكثير من الشعوب العربية هى التى تعيش الحيرة، حين تجد نفسها متأرجحة بين طريقين: طريق الرضوخ للأمر الواقع، وطريق الاجتهاد ومحاولة التصحيح.
علينا أن نعترف أن الشعوب الحائرة التى تواجه ظرفاً يدعوها إلى الاختيار بين كأسين لا يخلوان من مرارة، مسوقة بالكثير من العوامل التى خلقتها بأيديها وأدت إلى الدفع بها نحو السقوط فى بئر الحيرة.
النَّفَس القصير أول عامل للسقوط فى البئر، فنحن نبدأ المشوار ولا نكمله حتى آخره، كثيراً ما تُلح على بعض الشعوب العربية الرغبة بالوقوف فى منتصف الطريق، لتصبح عرضة للدهس. العقل الناضج لا يخطو خطوته الأولى على طريق إلا بعد تفكير، وإذا خطاها لا يترك الطريق إلا فى منتهاه. هكذا فعلت الشعوب التى قرّرت تغيير واقعها ونجحت فى ذلك.
التحرّك فى اللحظة الأخيرة أيضاً من الأسباب التى تُعرقل الشعوب عن الوصول إلى ما تتمناه. فكيف يحقّق الإنسان نجاحاً فى مواجهة مشكلة وقد تركها تتفاقم وسكت عليها أياماً طوالاً، ولما وصل إلى مرحلة عجز فيها عن تحمّلها بدأ يتحرك. التحرك فى مثل هذه الحالة لن يحقّق نتيجة، لأنه جاء فى غير موعده.
التفكّك هو الآخر يُعد عاملاً من عوامل السقوط فى بئر الحيرة. الاختلاف بين البشر أمر طبيعى، لكن عندما يصل الاختلاف إلى تفكّك تظهر المشكلة.
وجهات النظر يمكن أن تتعارض -تلك سنة من سنن الله فى خلقه- لكن ذلك لا يمنع أصحابها من الوصول إلى حل وسط أو توافق يؤدى به إلى السير ككتلة واحدة.
الكثير من الشعوب المجهدة خاضت تجارب خروج من الحيرة، عرقلها النَّفَس القصير، والتحرّك فى اللحظة الأخيرة، والتفكك، لذلك تظل «محلك سر»، يمر الزمن وتتغير الأيام وتتبعثر الجهود وتبقى هى كما هى.. هل تدرى السر؟
إنه ببساطة يتعلق بالثقافة السائدة، الثقافة التى تربّى عليها الإنسان منذ نعومة أظافره، وتزرع الآفات الثلاث التى تؤدى إلى السقوط فى بئر الحيرة بداخلها.
على الشعوب المجهدة أن تفهم أن علتها فى ثقافتها وأساليب تفاعلها مع الحياة، وعليها أن تستوعب أن حل مشكلتها أيضاً فى يدها إذا وعت وغيّرت.