بقلم: د. محمود خليل
سيرة حياة الصحابى الجليل أبى ذر الغفارى تضعنا أمام تجربة إنسانية مدهشة لا يشبع العقل ولا تمل النفس من تأملها.
تمتع أبوذر بشخصية شديدة التفرد. عندما سمع بدعوة النبى صلى الله عليه وسلم بادر إليه واستمع له وآمن برسالته، ثم عرف كيف يقنع قبيلته كلها بعد ذلك بالإسلام.
ولأنه متفرد بذاته يعرف كيف يمشى فى الحياة وحده، فقد كانت علاقته بالنبى صلى الله عليه وسلم فريدة من نوعها، يشهد على ذلك قوله: «كنت رجلاً ألتمس خلوات النبى صلى الله عليه وسلم لأسمع منه أو لآخذ عنه». فقد حرص أبوذر على أن يأخذ عن النبى بشكل مباشر، ومع ذلك فقد كان يجل ويحترم صحابته أجمعين، لكن حبه للنبى وولاءه لرسالته كان يدفعه إلى ذلك دفعاً.
جانب من تفرد أبى ذر ارتبط بعقله المتسائل، وربما فسّر لك ذلك ميله إلى التماس خلوات النبى صلى الله عليه وسلم، تجد مثالاً على ذلك فى السؤال الذى وجّهه إليه فى إحدى الخلوات: يا رسول الله كيف علمت أنك نبى حين علمت ذلك واستيقنت أنك نبى؟ وأجابه النبى. وبعد معجزة المعراج سأله: يا رسول الله هل رأيت ربك؟
مات النبى صلى الله عليه وسلم وأخلص أبوذر لخليفته أبى بكر الصديق، ولخليفة خليفته عمر بن الخطاب، حتى كان عصر عثمان بن عفان، رضى الله عنهم أجمعين، وقتها انتهج الخليفة الثالث نهجاً لم يجر عليه الشيخان، وهو نهج أزعج أبا ذر أيما إزعاج، فقد وجد الثروات تتقاطر على المتحلقين حول الخليفة، ووجد رجاله يعيشون حياة مخملية لم يعرفها المسلمون أيام أبى بكر وعمر، والأخطر أنهم وقفوا حائلاً ما بين المسلمين والخليفة، ومنعوا الناس من الوصول بشكواهم التى يشرحون فيها ظلم ولاته، وجمعهم المال منهم بالعسف والظلم.
راع أبا ذر ممارسات معاوية بن سفيان والى الشام فى العيش الفاخر، والتمتع بالمال، وكنز الذهب والفضة، والعيش فى القصور، كان بالشام حين عاين هذه الممارسات، ولم يكن لمثله أن يسكت على ذلك فهاجم «معاوية» بعنف، وسلق أغنياء بنى أمية بلسان حاد، وأنكر على من يقتنى مالاً من الأغنياء، وأفتى بحرمة أن يدّخر الإنسان ما فوق القوت، وأوجب التصدق بالفضل.
لم يُرضِ هذا الكلام معاوية بالطبع فاشتكى أبا ذر إلى الخليفة عثمان فاستدعاه إلى المدينة، فقدمها، فلامه عثمان على بعض ما صدر منه، وطلب منه أن يتوب عن نقده الأغنياء ولا يرجع إليه، لكن المتفرد الحر أبا ذر أبى ذلك، وأصر على رأيه فى الأغنياء، وأكد عدم رضائه عن التحولات التى بدأت تضرب المسلمين فجعلت منهم طبقات، يطغى غنيها على فقيرها وقويها على ضعيفها. يقال إن عثمان بن عفان عاقب أبا ذر بالجلد، وهناك من ينكر ذلك، والثابت فى الحالتين أن الخليفة حكم على أبى ذر بالنفى إلى الربذة (منطقة على تخوم المدينة)، وامتثل الرجل وسار إليها.
شىء غريب فى شخصية هذا الرجل الذى عاش فى قلب خلوات النبى صلى الله عليه وسلم لينتهى به الحال إلى العيش على الهامش الجغرافى والإنسانى الإسلامى أيام عثمان بن عفان.