بقلم :د. محمود خليل
المعارك اليوم تدور حول الألفاظ.. فقد ترك المتابعون نتيجة مباراة الأهلى والزمالك التى أقيمت يوم الجمعة الماضى، وأداء الفريقين والمدربين فيها، وبات التركيز على مجموعة «الإفيهات» التى ضربها المعلق الرياضى الكابتن مدحت شلبى على هامش ما شهدته المباراة من أهداف.
شاهدت المباراة مثل غيرى، واستمتعت بأداء اللاعبين فيها، ولا أخفى عليك أننى التفتُّ أيضاً إلى الإفيهات التى اجتهد «شلبى» فى رصها، وهو يصف أداء اللاعبين أو الأهداف التى كانت تزغرد فى الشباك هنا وهناك من وقت إلى آخر من أوقات المباراة.
وابتداء أجد من الضرورى الانتباه إلى أن بعض ما غرّد به المعلق لم يكن أكثر من رص كلام منغوم صوتياً دون أن يكون له معنى واضح، إنها ببساطة هتافات الزحمة التى تعتمد على رص الكلام بإيقاع صوتى يطرب الجماهير.
ليس هناك معنى فى قول المعلق: «آه منك يا معلول.. ياللى حطيت الزغلول.. آه منك يا لول» إنه ليس أكثر من سجع كلام يطرب السامع، لكنه لا يحمل أى معنى، مجرد فرقعة صوتية تتناغم مع التعليق على «ديربى» كرة قدم.
قِس على ذلك أيضاً إفيهات: «العفيف الشريف المخيف.. يا لطيف يا لطيف».. إنه أيضاً سجع كلام يحمل معانى متناقضة، فما العلاقة بين العفة والخوف واللطف؟.. وإفيه «كعب السولية المتحنى» الذى صرخ به مدحت شلبى لا يعبر عن لعبة «الرابونا» التى أداها اللاعب، بلف ساقه ولعب الكرة بوجه القدم وليس بكعبه.. إنه رصّ كلام ليس أكثر، وفى الزحمة يصبح المعنى غير مهم.. السجع أهم فى مثل هذه الأحوال.
نحن أبناء ثقافة تحتفى بالصوت أكثر مما تكترث بالمعنى، والجدل حول هذه الشقشقات اللفظية يعبر بأمانة عن ولاء عميق لثقافتنا تلك.
لقد ظل المصريون يسمعون قصائد العظيمة أم كلثوم التى لحنها السنباطى العظيم (الأطلال، وسلوا كؤوس الطلا، ورباعيات الخيام، وغيرها)، ونادراً ما كان بعضهم يتوقفون ليسألوا عن معانى بعض المفردات الغامضة بالنسبة لهم، فالمهم الإيقاع والصوت والطرب.
ومن عجب أن عمود اللغة العربية المتمثل فى «النحو العربى» لا يكترث بأن تحمل الجمل معانى حتى تخضع لقواعد الإعراب، فأى رص معدوم المعنى يمكن أن يعربه اللغويون. فجملة «استمز المستعص بصحكاحته» تتكون من فعل ماضٍ وفاعل وجار ومجرور ملحق به ضمير مضاف إليه، وليس مهماً بعد ذلك أن الجملة تحمل مفردات ليس لها أى معنى.
هذا الطابع الصوتى الغالب على ثقافتنا، يدفعنا فى بعض الأحوال إلى تنحية الموضوع جانباً والخناق حول اللغة والألفاظ.
على سبيل المثال ما زالت خناقة 5 يونيو 67 قائمة حول اللفظ الأوجه فى توصيفها وهل هو «هزيمة» أم «نكسة»؟. إنه الغرق فى اللفظ للهروب من المعانى الموجعة للأشياء والأحداث.
وعلى ما بين حدثى 5 يونيو 67 و5 نوفمبر 21 من فارق كبير، إلا أن التعاطى مع اللفظ ما زال هو السائد، وصوت الخناق عليه ما زال يعلو فوق صوت البحث عن أسباب الهزائم.