بقلم: د. محمود خليل
المجتمعات الطاردة هى ببساطة المجتمعات التى يصعب العيش فيها، فتدفع أبناءها إلى التحرك نحو غيرها من المجتمعات الجاذبة التى تتيسر فيها سبل العيش.
أواخر الستينات وأوائل السبعينات كانت هناك موجة هجرة واسعة من جانب بعض المصريين نحو العديد من الدول الغربية والعربية. وجدت هذه الموجة تفسيرها فى «غياب الأمل» بالمدلول الواسع لهذه العبارة. كان الشباب حينذاك يسيطر عليه إحساس باليأس من إصلاح الأحوال الفردية وصلاح الأحوال العامة، وترتيباً على ذلك فقد حوّل قبلته بعيداً عن الأرض التى ولد ونشأ فيها ووجهها إلى أرض الهجرة، فاتجه من يمتلك القدرات والمؤهلات المناسبة للعيش فى المجتمعات الغربية إلى الهجرة إليها، وتوجه الباحثون عن «قرشين» -خصوصاً بعد العام 1973- إلى العمل كموظفين فى الدول العربية.
فى رواية «الحب تحت المطر» عبّر الأديب نجيب محفوظ عن الحالة التى ضربت المجتمع المصرى أواخر الستينات من خلال شخصية الطبيب «على زهران» الذى تخرّج من كلية الطب بترتيب الأول على دفعته، وكان من حقه الحصول على بعثة للدراسة بألمانيا، لكن يد المسئولين «الطايلة» حرمته من حلمه، ومنحت البعثة للثالث على الدفعة، وانتهى به الأمر إلى العمل طبيباً للبحوث بوزارة الصحة، وكانت النتيجة أن قرر الهجرة. دخل فى نقاش حاد مع أبيه الذى كان يرى فى قرار ولده تسرعاً غير مبرر، لكن «على» كان قد عزم أمره من منطلق البحث عن مكان يجد فيه راحته، وتتيسر فيه سبل العيش.
مثّلت شخصية «على زهران» فى ذلك الوقت نموذجاً لشباب مصريين كثر، أطباء ومهندسين ومعلمين وغيرهم، قرر بعضهم الهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبية أخرى، وسافر بعضهم للعمل بالدول العربية، وكان القاسم المشترك الأعظم بين الجميع هو فقدان الأمل فى تحسن الأوضاع.
المصرى بطبيعته شديد الارتباط بالأرض التى نبت فيها، وقد يثقل عليه فى بعض الأحوال مجرد الانتقال من الحى الذى نشأ فيه، ليسكن حياً جديداً، بسبب الرباط العميق الذى يربطه بالمكان، وهو لا يتزحزح من فوق تراب بلاده إلا مضطراً، وكل تجارب السفر تشهد على مرارة الإحساس بالغربة الذى يعيشه المصرى بعيداً عن الأهل والوطن.
غياب الأمل هو العامل الأخطر فى ارتخاء الحبل المتين الذى كان يربط «على زهران» -أحد أبطال رواية «الحب تحت المطر»- وأرض بلاده، فدفعه كطبيب شاب إلى التفكير فى الهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
وغياب الأمل يجد ترجمته فى مؤشرات عديدة من بينها: سقوط مبدأ تكافؤ الفرص، وسيطرة الفساد على الواقع بسبب تصدر الشخصيات محدودة القدرة للمشهد، يضاف إلى ذلك بالطبع الأوجاع الاقتصادية وعدم قدرة الشاب على تحقيق ذاته، والحصول على المتطلبات الأساسية لبناء الحياة وتكوين أسرة، بما يترتب على ذلك من إحساس داهم بالإحباط، ينساق معه الفرد إلى البحث عن حياة جديدة تمنحه ولو قدراً ضئيلاً من الأمل.