بقلم: د. محمود خليل
ملاحظة عجيبة ربما التفت إليها مَن عاش أو يعيش فى أحد الأحياء الشعبية بالقاهرة، تتعلق بأسماء الحوارى. فثمة حوارٍ شهيرة تتوزع على أحياء القاهرة تسمى بأسماء أطعمة معينة مما يحبه المصريون.
على سبيل المثال حارة اسمها «حارة الشوربة» -تكتب أحياناً الشربة- لا يدرى ساكنوها هل ارتبط هذا الاسم بوجود أحد أحواض أو أسبلة الشرب بها أم أن الأمر ارتبط بأحد صناع الشوربة الذين كانوا يعملون بها، واشتهرت الحارة باسمه، كما حدث مع «حارة الملوخية».
«حارة الملوخية» حارة سكنها نجل القائد جوهر الصقلى قائد الحملة العسكرية الفاطمية على مصر، وسميت الحارة باسمه، ولكن بعد عقود من موت «ابن القائد» تحول اسمها إلى حارة «ملوخية» أو «ملوخيا» -كما يذكر على مبارك فى الخطط التوفيقية- وملوخيا هذا أحد فراشى القصر الكبير، وقد لقى مصرعه على يد الحاكم بأمر الله.
وهناك حارة «كشك» تلك الأكلة الشهيرة التى كانت تشكل وجبة أساسية من الوجبات التى يؤثرها المصريون، وتجد أن خناقة كبيرة دبت بين الزوجة وحماتها فى فيلم «ست البيت» بسبب أكلة الكشك.
و«حارة جميزة» التى تقبع خلف مسجد ومدرسة «تغرى بردى» بشارع الصليبة، ولا يوجد تفسير لاسمها، حيث لم يذكر أى من المقريزى أو على مبارك فى خططهما أنها ارتبطت بشجرة جميز كانت فى صدرها، فهل اكتسبت هذا الاسم من تعلق أهلها بثمر الجميز؟
و«عطفة الحلاوة» التى تعكس ميل المصريين إلى السكريات، ولعلك تلاحظ أن هناك شوارع وحوارى مصرية عديدة سميت بـ«السكرية»، ربما يكون بعضها قد ارتبط بوجود وكالات قديمة لبيع السكر بداخلها، وقد يكون السبب غير ذلك، وقد ألّف نجيب محفوظ الجزء الثالث المعنون بالسكرية، وتدور أحداثه فى حى بهذا الاسم.
أسماء أخرى عديدة لحوارٍ وشوارع ودروب وأزقة ستجدها تحمل حتى اللحظة أسماء أطعمة معينة ارتبطت بتاريخهم أو بتفضيلاتهم الغذائية. وهى تعكس من زاوية أخرى أهمية الطعام بالنسبة للناس، ولا يختلف المصريون عن غيرهم من الشعوب فى هذا السياق، فالإنسان بحاجة إلى القوت مثلما هو بحاجة إلى الإحساس بالأمن.
الاستثناء فى مصر يتعلق بإطلاق أسماء الأطعمة على الحوارى والعطفات والدروب، ولا أستطيع أن أحدد هل تشاركنا شعوب أخرى فى هذه الظاهرة أم لا؟. كل ما نستطيع تقريره فى هذا السياق أن الغذاء موضوع معضل ومهم بالنسبة للأجيال المتعاقبة من المصريين، ربما ارتبط ذلك بما عاناه هذا الشعب أيام المجاعات وشح النيل. ولو أنك استعرضت الشدة المستنصرية أواخر العهد الفاطمى فسوف تعذر الآباء والأجداد حين أطلقوا أسماء الأطعمة على أماكن معيشتهم.
وثمة اتفاق بين المصريين أن مشروعات الأغذية فى مصر لا تخسر، فهى دائماً كسبانة وربحانة، لأن الناس قد تفرّط فى أى شىء إلا الغذاء، وهذه المسألة قديمة قدم الأسواق والسويقات فى بر المحروسة، حيث يتم عرض البضاعة لمن يريد الشراء.
فى كل الأحوال للشعوب ثقافتها وأسبابها وهى تصنع الظواهر المختلفة، بما فى ذلك ظاهرة الاحتفاء بـ«المم».