بقلم: د. محمود خليل
قبل مشرق عام جديد يجتاح البشر موجة شغف كبير بالتعرف على ما يحمله قادم الأيام. المستقبل مجهول، والإنسان بطبيعته مجتهد وهو يحاول بكل الطرق أن يلم ببعض خطوطه، أحياناً بالدجل والشعوذة، وحيناً بالعلم.
مسار الدجل والشعوذة معلوم بالضرورة، ويسير فوق دروبه العرافون ومن يصفون أنفسهم بالفلكيين وخبراء التاروت.
أغلب توقعات من يقرأون المستقبل على هذا المسار يعتمدون على الخبط العشوائى، بعضهم يقول لك مثلاً إن عام 2022 سيشهد موت فنان كبير أو عالم شهير، وسيواجه العباد مشكلة اقتصادية لكن سيكون لها حل، وثمة عواصف تبدو فى الأفق وزلازل متوقعة فى هذا المكان، وأعاصير متوقعة فى آخر، وغير ذلك من توقعات عشوائية.
جوهر العشوائية فى هذه التوقعات يتعلق بعدم التحديد، فكل عام يشهد موت بشر، فنانين أو علماء أو شيوخ دين، ويشهد زلازل وعواصف وأعاصير، ومشكلات اقتصادية وقلاقل واضطرابات. ما يتحدث عنه هؤلاء هو جزء من حياة البشر، ولا يحتاج شطارة فى توقعه.
القراءة العشوائية للمستقبل تتناقض مع الفهم العقلانى للدين، لأن القرآن الكريم يؤكد أن المستقبل مساحة معتمة لا يستطيع أحد أن يدرك ما سيدور فيه «إِنَّ اللَّهَ عِنده عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِى الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ».
المسار الثانى لاستشراف المستقبل هو مسار العلم. هناك علوم مستوية وناضجة تسمى علوم المستقبل، أساس توقع القادم فيها هو الواقع المعيش، وكل ما يفعله المعنيون بهذا العلم هو التقاط الخطوط الأساسية التى تتفاعل فى الواقع ومدها على استقامتها لتوقع مساراتها فى المستقبل.
قراءة الواقع هى أيسر سبيل لمعرفة خطوط المستقبل. فالخط المستقيم هو أقصر مسافة ما بين نقطتين، نقطة معلومة فى الحاضر وأخرى متوقعة فى المستقبل. فتحديد عدد سكان مصر عام 2050، أو أوضاعها الاقتصادية خلال عام 2022، أو التغيرات المناخية بها أو بغيرها فى دول العالم خلال العقد القادم، لا تحتاج اجتهاداً أو قراءة طالع، فالمسارات المستقبلية تجد مقدماتها ونقاط انطلاقها فى الواقع المعيش.
نبى الله يوسف -عليه السلام- هو أقدم عالم مستقبليات عرفه البشر، فقد كان عالماً بتأويل الأحاديث: «وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ». فتأويل الأحاديث ببساطة أساسه قراءة الواقع وتوقع مساراته المستقبلية، وذلك ما فعله نبى الله يوسف حين أوّل رؤيا الملك للبقرات السبع من واقع سنوات الجفاف وسنوات فيضان النيل فى مصر.
وعندما أمر يعقوب إخوة يوسف بالدخول من أبواب متفرقة لم يكن يلاعب المستقبل، بل كان يتوقع عن علم، لأن يعقوب -عليه السلام- كان يؤمن بأنه لا يستطيع أن يحمى أبناءه من المخبوء لهم فى المستقبل «وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِى عَنْهُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَىْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِى نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ».
كل عام والجميع فى سعادة ورضا.