بقلم :د. محمود خليل
ما إن نخرج من معركة حتى تلحق بها أختها.. جدل لا ينتهى حول أمور ومسائل حين تتابع طرق تناولها والحجج والآراء المطروحة على ألسنة وأقلام المؤيدين أو المعارضين لها تجدها ثابتة لا تتغير، فليس ثم من جديد تحت شمس المحروسة.
فجأة، ومن علوم الله، قفز موضوع تعدد الزوجات على سطح الجدل العام فى مصر، بمناسبة الإعلان عن زواج أحد مشاهير الرياضيين على زوجته.
أيَّد من أيَّد الخطوة مستنداً إلى تأويلات دينية، وعارض من عارض هذا الفعل بتأويلات دينية أيضاً، ولا يهم مستوى الوجاهة فيما يقدمه هذا الطرف أو ذاك، فالأهم هو اشتعال الجدل وقصف الجبهات والهجوم المتبادل بين من يعتبرون أنفسهم حراساً للعقيدة، ومن يظنون أنفسهم رسل تنوير.
ثمة نقطة أساسية لا بد أن نلتفت إليها ونحن بصدد تحليل بعض الظواهر مثل «تعدد الزوجات»، تتمثل فى الطبيعة الاجتماعية -وليس الدينية- لها، فالتطور الاجتماعى -وليس أدبيات الفقه الدينى- لعب الدور الأهم فى محاصرة هذه الظاهرة.
زمان كان الزواج بأكثر من واحدة اتجاهاً عاماً يتقبله المجتمع ولا يجد فيه أى مشكلة، راجع كتب التاريخ وستجد أن الخديو إسماعيل -على سبيل المثال- كان له 14 من الزوجات والجوارى، وجده محمد على تزوج 13 مرة، وما كان يجرى على الوالى والخديو كان يجرى على الشعب، فكان من العادى جداً أن يتزوج كل من يملك القدرة المالية أكثر من واحدة، وحتى بعض المعسرين مالياً كانوا يعددون الزوجات، ولم يكن المجتمع يجد غضاضة فى ذلك.
ومع الدخول إلى القرن العشرين بدأت الأمور تختلف، فتجد أن كلاً من السلطان حسين كامل والملك فؤاد وفاروق اتجها إلى نبذ فكرة تعدد الزوجات والاكتفاء بواحدة، فى وقت بدأ المجتمع المصرى فيه يبتعد تلقائياً عن هذه الممارسة، ولم يمنع ذلك البعض من مواصلتها.
ليس معنى تناول القرآن الكريم لموضوع تعدد الزوجات أن نعتبره قضية أو مسألة دينية، فالقرآن كان يناقش الظاهرة اجتماعياً وإنسانياً، والتعدد الذى طرحه القرآن كان هدفه المحاصرة وليس الإطلاق، لأن القارئ فى تاريخ العصر الجاهلى يجد أن الباب كان مفتوحاً للرجل ليتزوج أو يجمع بين أى عدد يريده من الزوجات، وبالتالى فالقرآن عندما حدد الجمع فى أربع كان يحاصر.
لقد اعتمد القرآن الكريم على منهجية التدرج فى التشريع مراعاة للظروف والتحولات الاجتماعية، لذا كان من الطبيعى أن يبيح التعدد مع محاصرته وعدم إطلاق يد الرجل فى الزواج فى البداية، ثم يضع شروطاً للجمع بين أكثر من زوجة، مما يدلل على أن الإسلام واجه التعدد، وترك للأجيال التالية من المسلمين فرصة للاحتكام والامتثال لظروفهم الاجتماعية التى ستدفع بالبداهة فى اتجاه المزيد من المحاصرة، وهو ما حدث بالفعل.
فتعقُّد الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية عند الانتقال من جيل إلى جيل ومن عصر إلى عصر مثَّل العامل الأهم فى محاصرة ظاهرة تعدد الزوجات، ليتأكد أن تأثير الزمن أخطر بكثير من المعارك الوهمية التى تدور بين من يصفون أنفسهم بالمحافظين والآخرين التنويريين، وأنهم فى النهاية لا يغيرون شيئاً.. الزمن فقط هو الذى يطور ويعالج.