بقلم: د. محمود خليل
خلق الله تعالى الإنسان حراً فى اختياراته فى الحياة، وجعل تفعيل هذه الاختيارات فى الواقع مرهوناً بمشيئته جل سلطانه.. وجوهر المشيئة الإلهية سحابات رحمة يسير الإنسان فى ظلها.. وعلى الإنسان ألا يفرح بتحقيق اختيار، وألا يحزن لفوات شىء اختاره أو أراده فهو ليس مطلعاً على الغيب، ولا يدرى الأنفع والأصلح له من بين ما اختار بمحض إرادته: «لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ».
فى أخطر المسائل التى ترتبط بعلاقة الإنسان بالسماء، منح الخالق العظيم الإنسان حريته كاملة.. فقد جعل «البلاغ» مهمة الرسل، دون أن يشغلوا أنفسهم بإيمان مَن يبلغون، حساب الناس على الله: «فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ».. فالإيمان بالله حرية وكذلك عدم الإيمان: «وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ».
وبشكل صريح لا يحتمل المواربة، نص القرآن الكريم على عدم الإكراه فى الدين. يقول الله تعالى: «لا إكراه فى الدين».. ويقول: «أَفَأَنْتَ تُكْره النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ».. ويقول: «لَكُم دِينُكم وَلِى دِين».. فالهداية ليست بالإكراه الإنسانى: «مَنْ يَهدِ اللهُ فهوَ المهتَد».. وهى أيضاً ليست بالمحبة: «إِنَّكَ لَا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَنْ يَشَاءُ».
شعائر الإسلام وأخلاقياته كلها تصب فى خانة التأكيد على الحرية.
إفراد العبودية لله سبحانه تحرير للإنسان من استعباد غيره.. فكل البشر متساوون فى الصحة والمرض، والعطش والارتواء، والجوع والشبع، والأهم فى الحياة والموت، الفضل كله لله، وليس لإنسان فضل على آخر إلا فى إطار ما ينظم الحياة ويحمى المجتمعات، الإنسان فى هذه الحالة مسئول عن الانخراط فى النظام حتى لا تسود الفوضى الحياة.
الصلاة تحرير للإنسان من عبودية الحياة، حين يركن خلال لحظاتها إلى الخالق عز وجل، ويلوذ بكهف إيمانه، وينخلع من الحياة ومشاكلها وضغوطها.
الصيام تحرير للإنسان من عبودية الجسد، وما يدور فى فلكه من شهوات ورغبات، وحالة من السمو بالروح لتحلق فى السماء، وتنخلع من متاع الحياة الدنيا، إنه تعويد للإنسان على التحرير من نقاط ضعفه.
الحج انخلاع من عبودية الأحبة، من عبودية الزوجة أو الزوج والأولاد، خروج من دوائر المال والعمل، وانطلاق إلى رحاب الله تعالى، فى رحلة إيمانية حرة إلى بيته الحرام.
الزكاة تحرير للإنسان من عبودية الشح.. فالإنسان ميال إلى الكنز والشح فى الإنفاق.. يقول الله تعالى: «وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ».. وإخراج الزكاة والصدقات يحرر الإنسان من أن يكون عبداً للمال: «تعس عبدُ الدينار.. تعس عبدُ الدرهم».
أخلاقيات الإسلام وقيمه تدور أيضاً فى فلك التأكيد على الحرية.. فالصدق حرية.. والأمانة حرية.. والوفاء حرية.. والصبر حرية.. والعدل حرية.. والإحسان حرية.. وصلة الرحم حرية.
كل قيم الإسلام تحرر الإنسان من أن يكون عبداً لنفسه وهوى نفسه.. وكل ما يعاكس هذه القيم يدعم العبودية، فالكذب والخيانة والضجر والظلم والإساءة وقطع الرحم تمثل أشكالاً مختلفة من العبودية لهوى النفس.. الحيود عن قيم الإسلام معناه أن الإنسان بات أسير نفسه وتخلى عن حريته.