بقلم: د. محمود خليل
فى الوقت الذى كان عباس العقاد ومفكرون آخرون يؤكدون فيه على تربية «العقل النقدى» كوسيلة قادرة على تمكين الفرد والمجموع من التعامل الصحى مع الأفكار الخطرة التى تتهدده، بالإضافة إلى دوره فى تطوير الواقع، كانت أطراف أخرى عديدة تتبنى الفكرة الموروثة الداعمة لـ«العقل التسليمى» الذى يستقبل ما يُلقى إليه من أفكار دون فحص أو مراجعة، وعياً منها بأن تعطيل فضيلة «النقد» تعنى تعطيل العقل عن العمل وإحالته للتقاعد، ليصبح من السهل عليه تقبُّل ما يُلقى إليه. الأطراف التى دعمت نظرية «العقل التسليمى» انتفعت من ذلك أيما انتفاع من خلال تسهيل مسألة تمرير أفكارها إلى المجموع، لكنها أضيرت بعد ذلك أشد الضرر حين وجدت نفس العقل الذى علَّمته التسليم يتقبل أفكاراً أخرى تجد فيها خطراً عليها دون فحص أو مراجعة أيضاً.
قد تستغرب حين أقول لك إن أولى الأدوات التى استُخدمت لتربية «العقل التسليمى» أو «العقل المعطل» أو «العقل المؤمَّم» -سمِّه ما شئت- بدأت من خلال الأغانى، وما تحمله كلماتها من معانٍ تحمل سلطانها الخاص على النفوس، دعنا نفكر كيف حدث ذلك.
الغناء فى مصر أشكال وألوان، ويمكن تقسيم الأغانى وترتيبها تبعاً لعددها وحجم انتشارها إلى: الأغانى العاطفية، ثم الوطنية، ثم الدينية، بالإضافة إلى الأغانى التى تصور مشاهد عامة من الحياة.
مع مطلع كل صباح تعوّد المصريون على استقبال نوعين من الأغانى: أغانٍ عاطفية تدعو إلى التوقف عن التفكير، مثل أغنية عبدالوهاب: «انسى الدنيا وريّح بالك.. واوعى تفكر فى اللى جرى لك».. وأغنية ليلى مراد: «اضحك كركر.. إوعى تفكر» وأغنية عبدالحليم: «ليه تشغل بالك ليه.. على بكرة وتبكى عليه»، بالإضافة إلى أغانٍ أخرى تنقل مشاهد الصباح، مثل أغنية أم كلثوم: «يا صباح الخير ياللى معانا» وأغنية «الشمس بانت من بعيد» و«يسعد صباحك ربنا».
جميل أن تدعو الأغانى إلى التفاؤل، لكن الخطر يظهر حين تحفّظ المستمع معانى تدعوه إلى تعطيل العقل والهروب من التفكير فى أى شىء، إلى حد أن تدفع بأفراد المجتمع إلى وصف الفكر بالمرض، فتجد بعضهم يصف الشخص السارح أو الشارد بأنه «عنده فكر» وكأن التفكير علة تستحق العلاج! بعض الأغانى العاطفية التى راجت خلال العقود الماضية دعت فى أحيان إلى «تعطيل العقل»: «سألت عقلى فأصغى وقال لن تراها.. وقال قلبى أراها ولن أحب سواها».. وفكرة التوقف عن التفكير: «سبتك من غير حتى ما أفكر.. هقدر أسيبك أو موش هقدر».
طبعاً التراث الغنائى العاطفى من الثراء بحيث يضم أطيافاً متنوعة من الأغانى، من بينها أغانٍ ومعانٍ تحرّض العقل على التفكير، يكفى أن نستشهد فى هذا السياق بحدائق البهجة التى تشتمل عليها قصائد أم كلثوم وتعابير رامى وشوقى والفيصل وناجى وغيرهم.. أعرف أيضاً أن أغانى مثل «إنسى الدنيا» و«إضحك كركر» و«ليه تشغل بالك» تصف مواقف يحتاج فيها الإنسان إلى لحظة ينسى فيها همَّه والانصراف عما يؤرقه وأن يضحك للحياة، وكلها معانٍ إنسانية لها حيثيتها، لكن المشكلة أن السياق كثيراً ما يغيب فى ذهن المجموع ليبرز المعنى المجرد الداعى إلى «عدم التفكير» و«تعطيل العقل»، ولا تستهن بالمعنى المجرد الذى يرسخ فى ذهن المتلقى وأثره على أسلوب تفكيره.
لعلك سمعت عن تلك القصة -التى لا أعلم مدى مصداقيتها- التى عاتب فيها مصطفى باشا النحاس محمد عبدالوهاب على أغنية «مسكين وحالى عدم من كتر هجرانك.. يا اللى تركت الوطن والأهل عشانك»، لم يعجب النحاس المعنى الذى تحمله كلمات تبرر لمحب أن يترك وطنه وأهله عشان واحدة بيحبها. قد يقول البعض إن الباشا كان يبالغ ولم ينتبه إلى المعنى الخيالى أو المجازى الذى تحمله الكلمات، لكننى أراه دق ناقوس خطر على ما تشيعه بعض الأغانى من معانٍ تدعو إلى تغييب العقل.