بقلم: د. محمود خليل
حتى لا تفهمنى خطأ أبادر منذ البداية وأقول لك إننى لا أقصد بهذا الحديث «سعر الجنيه أمام العملات الأجنبية»، بل ارتفاع سعر الجنيه مقابل أى قيمة أخرى فى حياة البعض.
المال لازم لحياة الإنسان، وقد صنفه الخالق العظيم ضمن زينة الحياة الدنيا، والناس تحب الزينة: «زُيِّنَ للناسِ حُبِّ الشهواتِ من النساءِ والبنينَ والقناطيرِ المقنطرةِ منَ الذهبِ والفضةِ والخيلِ المسومةِ والأنعامِ والحرثِ ذلك متاعُ الحياةِ الدنيا والله عنده حُسنُ المآب».
فالمال هو الوسيلة التى تدفع البنى آدم إلى الإكثار من الأبناء (كوسيلة لجلب المال أو إنفاقه)، وهو أداة تحقيق الأطماع الذكورية فى النساء وسائر الشهوات الأخرى التى فطر الخالق الإنسان عليها.
وجود المال نعمة إذا سقط فى يد الإنسان، لكنه يتحول إلى نقمة -كما يقول العارفون- إذا سكن قلبه، ويستحيل إلى كارثة محققة إذا أصبح مقياس القيمة فى الحياة، وقد أوشك الجنيه أن يصبح كذلك فى حياة قطاع لا بأس به من المصريين.
زمان -أحدثك عن الستينات وبدايات السبعينات- كان العلم قيمة والتعليم مقاماً. كان التفوق فى الثانوية العامة أو فى الجامعة مجلبة للاحترام، وزيادة فى الاعتبار. كان الفقير الذى يحقق تفوقاً دراسياً يجد مردود ذلك احتراماً واعتباراً فى أعين الآخرين، ويتحول إلى مضرب للمثل أمام غيره من المتعثرين. كانت أياماً يتوارى فيها من يذهب لمدرس خصوصى أو التحق بمدرسة خاصة بسبب ضعف مجموعه خجلاً ألا يبارى المتفوقين.
زمان -أحدثك عن الستينات وبدايات السبعينات أيضاً- كانت قصص الحب قيمة و«سيما». الحب حينها كان يجب الفقر فى مسألة الزواج، فيكفى جداً أن يكون قائماً حتى يتكتل المجتمع للدفاع عن حق الطرفين فى الارتباط، بعيداً عن أى حسابات مالية، فالمال مال الله وهو يأتى من رزقه، و«إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم».
كان زماناً يرى القيمة فى العلم، فى الأخلاق، فى الحب، فى القيم النبيلة، وليس معنى ذلك أنه لم يكن يكترث بالمال، فلم يأتِ على الإنسان حين من الدهر أهمل فيه قيمة المال، لكنه كان يضعه فى موضعه الطبيعى كوسيلة لإنجاز احتياجات الحياة.
لا أجدنى بحاجة إلى تذكيرك بأن رحلة صعود الجنيه كقيمة فى حياة المصريين انطلقت منذ منتصف السبعينات، وقد ظل يصعد عاماً بعد عام حتى وصل إلى أعلى قيمة، وبات كل يوم يمر منذراً بارتفاع أكبر لقيمته فى حياة المصريين، وأخصنا نحن المصريين بالحديث لأننا لم نكن كذلك، ولأن مجتمعات يتندر بعض منظرينا بوصفها بالمادية لا تقيم الوزن الذى نقيمه للمال، وبإمكانك أن تراجع النتاج الفنى لبعض الدول الغربية التى يصفها البعض بالمادية وستجدها ناطقة بقيم إنسانية وأخلاقية وتاريخية وعلمية وتكنولوجية متنورة، ولا يحضر فيها المال إلا عندما يكون غاية لسرقة منحطة.
بإمكانك أن تراجع مواقف حياتنا، ودوافع الجرائم التى تشيع فى مجتمعنا، ونمط المنافسات التى تسود من حولنا، وبعض أفلامنا ومسلسلاتنا، وستجد أن الأصل فيها «ارتفاع سعر الجنيه».