بقلم: د. محمود خليل
اتسم أداء الرئيس الراحل حسنى مبارك بدرجة واضحة من التوازن خلال الفترتين الأولى والثانية من حكمه (من 1981-1993)، وتمكن خلالهما من تبريد المشهد السياسى الساخن فى مصر بعد استشهاد الرئيس أنور السادات، وعبر بالبلاد أيضاً من أزمة اقتصادية عاتية استعرت منذ منتصف الثمانينات، وخدمه فى عبورها بعض الأحداث التى فاجأت المنطقة مثل الغزو العراقى للكويت، ثم حرب تحرير الكويت بمعرفة التحالف الدولى الذى قادته الولايات المتحدة الأمريكية.
ماء كثير بدأ يجرى فى نهر الحياة فى الحقبة المباركية منذ عام 1994، عندما بدأت أقدام السلطة تثبت على الأرض، وشرعت الحكومة فى بيع مشروعات القطاع العام، وتوسعت أدوار رجال الأعمال، وباتوا بمرور الوقت جزءاً من مركب السلطة السياسية فى مصر، بالإضافة إلى تبلور قوى الإسلام السياسى كأبرز القوى المعارضة على الساحة السياسية، وأصبحوا يشكلون جزءاً لا يتجزأ من النظام السياسى فى مصر.
مستجدات التسعينات أخذت تتدخل بمرور الوقت فى تشكيل معادلة الحقب التالية من فترة حكم مبارك، وعندما وصل قطار الزمن بالمصريين إلى العام 2005 كانت طبقة الحكم قد تبلورت فى شبكة من أبناء العائلات والساسة ورجال الأعمال، وتبلورت طبقة المعارضة فى جماعة الإخوان وبعض الأحزاب السياسية محدودة التأثير، والكل كان يعمل فى فلك السلطة.. السلطة كانت مطلقة فى يد الرئيس.. والسلطة المطلقة -كما يقولون- مفسدة مطلقة، كما أدى الزواج بين المال والسياسة إلى فساد أكبر وأخطر على المقدرات الاقتصادية للدولة.
أما الشعب فقد تواءم قطاع منه مع أداء السلطة المباركية التى أفسحت المجال لوجود فاسدين صغار قادرين على توظيف الفساد كوسيلة لتعويض ضعف الدخل وعجز الدولة عن تطوير معيشتهم، إلا فى مشروعات البنية الأساسية، وأصبح لهذا القطاع من المواطنين دخلان: دخل حقيقى وآخر موازٍ، وكما تركت السلطة المواطن الفاسد فى حاله، ما لم يكتشف أمره، فقد تركها هذا النوع من المواطنين فى حالها أيضاً وشجعها على الاستمرار، لأنه كان مستفيداً، كما هى مستفيدة.
فى مقابل هذا القطاع ظهر قطاع ثانٍ من المواطنين لم تعجبه معادلة «افسد وعيش» ورأى فيها «إهداراً للكرامة» وضع ما شئت من خطوط تحت العبارة الأخيرة. رفض هذا القطاع أن يهدر المعلم كرامته أمام التلميذ وهو يقبض ثمن الدروس الخصوصية كى يعوّض ضعف مرتبه، والطبيب حين يهدر كرامته أمام شركات الأدوية، والمهندس حين يتفوق عليه المقاول والحاصلون على المؤهلات المتوسطة، والكنّاس فى الشارع حين يتسول، والمواطن ككل الذى يقبل ببيع صوته فى الانتخابات مقابل 50 جنيهاً أو زجاجة زيت، لأنه يعلم أن السلطة ستأتى بمن تريد، وأصحاب العلم والمعرفة الذين تحولوا إلى منافقين يبيعون حياء وجههم ويهدرون ما تعلموه من أجل نيل منصب، لأن النفاق وإظهار الولاء لأولى الأمر بات الطريق الوحيد للوصول، وفى الختام المواطن الذى يبرر فكرة توريث الحكم من منطلق إن «اللى نعرفه أحسن من اللى مانعرفوش»، وإن «اللى جاى موش هيبدأ رحلة النهب من جديد».. وغير ذلك من أقوال كانت تتردد فى الشارع قبل 25 يناير 2011.
هذا القطاع من المصريين رفض مبدأ أن يعيش «نملة عشان ياكل سكر» فنزل فى 25 يناير وثار لكرامته، واضطر «مبارك» إلى التخلى عن الحكم، لكنه وقف فى منتصف الطريق، فدهسته العربات!.