بقلم: د. محمود خليل
«البرد زمان ما كانش كده».. تتردد هذه العبارة على ألسنة الكبار وهم يحدّثون الشباب عن الأجواء الشتوية فى الماضى مقارنة بالبرد القارس الذى نعيشه هذه الأيام، وكذلك وهم يتبادلون فيما بينهم الشكوى من معاناتهم من البرد الذى ينخر عظامهم التى أهلكها الزمن.
وعلى هامش حوار العواجيز عن البرد زمان والآن، يدور جدل بين الشباب حول الأفضل بين فصول العام وهل هو الصيف أم الشتاء؟ ومن عجب أن فصلى الربيع والخريف لا يحضران فى هذا الجدل.
وهو أمر لم يفت على شاعر بديع راحل مثل مأمون الشناوى حين كتب أغنية «الربيع» واحتفى فيها بهذا الفصل بشكل خاص، ورغم ذلك لم يفت عليه أن يرسم صوراً شديدة الروعة والتعبير لباقى فصول السنة.
وصف مأمون الشناوى ليالى الشتاء بالليالى الطويلة «وآدى الشتا يا طول لياليه»، فى حين وصف ليالى الصيف بالليالى الضاحكة «لمين بتضحك يا صيف لياليك وأيامك».. فهل طول الليل أو ضحكاته يرتبطان بمسألة تغير الأجواء وتقارير الأرصاد حول ارتفاع أو انخفاض درجات الحرارة وتحولات المناخ، أم أن هناك سراً آخر وراء ذلك مداره الإحساس الإنسانى بالأيام؟
علمياً يؤكد الباحثون فى موضوع «التغيرات المناخية» أن ثمة تحولات محسوسة فى درجات الحرارة، فقد باتت أكثر ارتفاعاً فى الصيف وأشد انخفاضاً فى الشتاء، بسبب التغيرات التى يشهدها المناخ فى العالم.. والسر فى هذه التحولات هو يد الإنسان التى لا تعرف التوازن فى التعامل مع النظام البيئى على كوكب الأرض.
كلام العلم له وزنه وقيمته وقدرته على تفسير التحولات التى طرأت على درجات الحرارة فجعلت شتاء مصر صقيعاً قارساً، لكن هل هذه التحولات هى العامل الوحيد الذى دفع الكبار والصغار إلى الشكوى من قسوة البرد الذى نعيشه هذه الأيام؟
أحياناً ما أفكر فى أسباب أخرى ربما قد يكون لها بعض الأثر فى المعاناة التى يعيشها الكبار والصغار مع صقيع الشتاء خلال السنوات الأخيرة.. فسكان البيوت القديمة المبنية بالطرق التقليدية التى اعتاد عليها الآباء والأجداد لا يشتكون من البرد بالدرجة التى يشتكى بها سكان البيوت الحديثة.. رغم أن البيوت القديمة لم تُشيَّد بالمواد النظيفة الشيك التى تُبنى بها المنازل حالياً، بالإضافة إلى ضيقها وعدم تميزها بما تمتاز به بيوت العز حالياً من اتساع وتمدد.
زمان كانت الشقة الواحدة يتبختر فيها العديد من الأنفس.. بعض الشقق كانت تؤوى الأب والأم والأبناء وزوجات الأبناء والأحفاد.. والقرب يؤدى إلى الدفء فى الشتاء، لكنه يتحول إلى ويل فى الصيف، لم يكن يخفف منه سوى الانطلاق إلى الشوارع لتخفيف الزحام داخل البيوت.
أنواع المأكولات وأساليب الطهو فى بيوت زمان تختلف عن الحاضر.. فى الماضى كانت ربات البيوت يركزن على أنواع معينة من المأكولات فى الشتاء تبعث الدفء فى الجسم.. على سبيل المثال كان هناك أكلة اسمها «السخينة» تعتمد عليها الأسر الفقيرة فى بث الدفء فى الأجساد، وهى عبارة عن فتة خبز بالحلبة والعسل الأسود، أظن أن بعض أفراد الجيل القديم يعرفونها.
وكما أن الدفء ظروف وأجواء فإنه أيضاً إحساس.. ويبدو أن تغيُّراً أو تحولاً طرأ -بفعل الزمن- على الأحاسيس يتشابه مع التغيرات أو التحولات المناخية.