بقلم: د. محمود خليل
حنين المصريين إلى العذراء البتول «مريم ابنة عمران» يمثل فى جوهره تعطّشاً إلى الحنان.. إنها فى نظر الجميع الصدِّيقة التى تفرد أجنحة محبتها على الجميع فتداوى أوجاعهم وتمسح أحزانهم وتكفكف دمعهم.
إنها الطاهرة المطهرة المصطفاة على نساء العالمين صاحبة المقام والحظوة عند الخالق العظيم: «وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ»، اختارها المولى عز وجل لتحمل كلمته إلى العالم: «إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ».
علاقة الصدّيقة مريم بالمصريين وعلاقة المصريين بها أصيلة وخالدة خلود كلمة الله. ففى مصر وجدت العذراء الملجأ الذى تأوى إليه وتلوذ به من ظلم الظالمين، فحملت ابنها فوق صدرها ومعها يوسف النجار، وارتحلت العائلة المقدسة إلى مصر، حيث آوت وتدفّأت بين أهلها، وباركت أرضهم وحياتهم. لاذت العائلة المقدسة بمصر ولاذ أهل مصر بروح الصدّيقة التى تفيض بالبشر والحنان.
ليس من المستغرب أن تجد الصدّيقة مريم تسبح فى خيال المصريين فى لحظات المحن والأزمات.
عندما وقعت واقعة النكسة فى يونيو 1967، وخرج جمال عبدالناصر يشرح للمصريين وقائع ما حدث فى الحرب، ويصدم أرواحهم بإعلان صريح للهزيمة ارتجت الأرض أسفل أقدامهم، داخ أغلبهم من وقع ما سمعوا، كان من الطبيعى لحظتها أن تقفز روح العذراء مريم إلى أرواحهم، إنها وحدها القادرة على تطبيب الجراح.
أوائل أبريل من عام 1968 -أى بعد مرور نحو 10 أشهر على حدث النكسة- بدأ المصريون يتناقلون خبراً عن ظهور السيدة العذراء «مريم ابنة عمران» فوق قبة كنيسة الزيتون، وبدأ الناس يتقاطرون على الكنيسة لمتابعة المشهد المثير، ويقال إن جمال عبدالناصر نفسه ذهب إلى هناك ومكث ينتظر حتى ظهرت العذراء وهى تتجول فوق قباب الكنيسة وبين شرفاتها تبارك الجمع الذى التأم ليحظى بالنظر إليها. اللافت أن الكنيسة التى كان يجلس فوق كرسى كرازتها فى ذلك الوقت البابا كيرلس السادس أصدرت بياناً تؤكد فيه واقعة ظهور العذراء ومشاهدة الآلاف لها، سواء من المصريين أو من الأجانب، ومن شتى الأديان والمذاهب، وأن الكل أجمع على ثبوت رؤيتها.
فى غمرة الأنوار التى كانت تتدفّق من وجه أم النور فوق قباب كنيسة الزيتون نسى المصريون أحزانهم التى تولّدت عن النكسة عام 1967.
البعض وصف ما تفاعل فى الشارع المصرى وقتها بأنه خلط ما بين الدين والسياسة، والبعض الآخر قال إن الخبطة التى ضربت رأس المصريين حينها أفقدتهم توازنهم، وجعلتهم يتخيلون أشياء غير واقعية، والبعض الثالث قال إن الحكومة كانت تقف بطريقة أو بأخرى وراء الموضوع، رغبة منها فى تتويه الناس.
نحن لا نستطيع أن نجزم بشىء، والله تعالى أعلم بحقيقة الأمور، لكن المؤكد أن هذه الواقعة تُثبت أن الصدِّيقة مريم كانت وسوف تظل ملاذاً للمصريين تستدعى أرواحهم روحها الطاهرة المطهرة ليلقوا أحزانهم وأوجاعهم على عتبتها، لتفتح لهم باب الولوج إلى عالم السكينة والمحبة.