بقلم :د. محمود خليل
أصيب المجتمع المصرى بحالة تسمم قاهرة عشية خطاب جمال عبدالناصر (9 يونيو 1967)، وهو الخطاب الذى صارح فيه الرئيس بما حدث فى الحرب والوضع الكارثى الذى انتهينا إليه.
فى ذلك الوقت كان «عبدالناصر» صانع القرار الأوحد، لذلك فقد أعلن بشجاعة أنه المسئول الأول عما حدث، وبغض النظر عن درجة الجدية فى قرار التنحى الذى طلب من الشعب أن يساعده عليه، فقد تعاطف معه الناس، وخرجوا فى فورة حماس بالغة يهتفون له ويرجونه البقاء فى منصبه.
ولكن سرعان ما هدأت السكرة وجاءت الفكرة ليجد المزاج المصرى نفسه وقد أصيب بنوع من التسمم. ذابت فورة التعاطف مع الزعيم، علت موجة النكات ساخرة من وضع جمال عبدالناصر ومما حدث فى الحرب حتى غطت على ما عداها.
وبعد موجة السخرية الأولى دخل الكثيرون فى حالة كدر عنيف، فأصبحت النعوت التى تم لصقها بمن حاربوا من أجل الضحك والسخرية موجهة إلى الذات نفسها، ودخل الناس فى موجة عاتية من موجات جلد الذات، واتهام الشعب لنفسه بالعجز وقلة الحيلة، والخوف والجبن، وغير ذلك من أوصاف.
وأعقب ذلك الدخول فى حالة التشابك باللفظ وبالأيدى، فاشتعلت العراكات فى الشوارع لأتفه الأسباب، استعرت الخناقات أمام الجمعيات الاستهلاكية فى إطار التنافس على فرخة مجمدة أو قطعة صابون أو كيس سكر، حتى ملاعب الكرة لم تنج من معارك دامية بين جماهير الأندية، كما حدث فى مباراة الأهلى والزمالك عام 1971.
على الضفة الأخرى من النهر كان الإخوان يقبعون، غارقين فى حالة تسمم بالشماتة. فقد شمتوا فى جمال عبدالناصر، وكأن الأرض التى سُلبت ملك لـ«عبدالناصر»، كانوا يتمنون الهزيمة له بغض النظر عن نتائجها العامة على البلد الذى يؤويهم. أخذ بعض أنصار الجماعة يرددون أنها دعوة سيد قطب التى دعاها على البلد وهو يقف على منصة الإعدام!.
شماتة الإخوان بدأت فى لحظة مبكرة قبل نكسة يونيو، وذلك خلال حرب اليمن، فمع تدفق الأخبار عما يحدث هناك، انطلقت رحلة الشماتة، فاخترع الإخوان نكتة «هسيبك لليمن» فى معارضة لأغنية «الست» الشهيرة «هسيبك للزمن»، تعبيراً عن السخرية والشماتة، كما حكى نجيب محفوظ فى رواية «الباقى من الزمن ساعة».
برر الإخوان الشماتة بما حدث لهم فى صراعهم مع «عبدالناصر»، ولم يزنوا الأمور بميزان موضوعى يتفهم أن شأن الصراعات السياسية هكذا، وأنهم لو كانوا فى مكان خصمهم فلربما عدوا واعتدوا أكثر من ذلك.
أما بقية المصريين فبرروا حالة جلد الذات ونصب موائد الخناقات فيما بينهم بضعفهم وخورهم، واستسلامهم لمجموعة من الشعارات الوهمية، وعدم جديتهم فى التعامل مع التحديات، وما أكثر ما ترددت فى ذلك الوقت عبارة «إحنا شعب زمارة تلمه وعصاية تجريه».
كانت حالة تسمم عام، نفثت فيه أفعى الشماتة سمها فى البعض، ودس عقرب جلد الذات سمه فى دم آخرين.