بقلم: د. محمود خليل
دأب الإنسان منذ مطلع التاريخ على صناعة أشياء تحكَّم فى شكلها وهيئتها ووظائفها، وإذا بها تتحكم فيه بعد حين. لا يوجد مثال أشهر على ذلك من مسألة عبادة الأصنام التى صنعها الإنسان وشكَّل ملامحها على الحجر، ثم ركع وسجد لها، وتحكَّم كهنتها فى مصائره وقراراته.
يبدو عالم السوشيال ميديا -مع الفارق- قريباً من هذا المثال، فقد صنع الإنسان تكنولوجيتها بهدف توفير أدوات من نوع جديد للتواصل بين البشر، وإحياء العلاقات المنطفئة على مستوى الصداقات والأسر والعائلات، ودعم سبل الاتصال فيما بينهم أياً كان موقعهم على خريطة الكوكب. يضاف إلى ذلك ما وفرته للأفراد من نوافذ للتعبير عن الرأى ووجهات النظر، وإحياء صوت المهمشين، وكذلك للمؤسسات التى باتت تخاطب جمهورها عبر هذه المواقع.
فى المقابل يختزن عالم السوشيال ميديا الكثير من السلبيات، بدأ الكثيرون يجأرون منها، ليس داخل مصر، وغيرها من الدول المستهلكة لخدمات هذه المواقع، بل فى عالم المنشأ، وداخل الدول المنتجة للخدمة، بما فى ذلك الولايات المتحدة الأمريكية. ولم يتوقف الأمر عند حد رصد السلبيات وتتبعها، بل أخذ فى بعض الأحوال شكل خروج موظفين من كبرى شركات الهايتك التى تدير هذه المواقع وفضح الأدوار السلبية التى تلعبها فى حياة البشر.
مفتاح أساسى لا بد أن تمسك به جيداً وأنت تحاول فهم عالم السوشيال ميديا هو «الترافيك»، فالغرض الأساسى لمن يديرون مواقع التواصل الاجتماعى هو استقطاب المزيد والمزيد من المستخدمين الذين يستهلكون ما يروج عليها من معلومات، فكلما زاد عدد المستخدمين ارتفعت معدلات الإعلانات عليها، وارتفع معدل تأثيرها على البشر، وبالتالى الأرباح المتحققة وحزم الأهداف التى تتغياها شركات الهايتك.
على مواقع التواصل الاجتماعى يبدو الفرد مكشوفاً على مستوى التفضيلات، فكل «كليك» تضغط بها على لينك معين مسجلة عليك، وهى تخضع بشكل مباشر للتحليل عبر خوارزميات -برامج ذكية- تكوّن سجلاً بتفضيلاتك على مستوى المعلومات ومصادر المعلومات والفيديوهات وشبكة الاهتمامات المختلفة التى تشكِّل عالمك. وعقب تحليل هذه المعلومات يبدأ عالم السوشيال ميديا فى ملاعبتك، فيضع فى طريقك ما يتسق مع ما جمعه عنك من معلومات، جرب مثلاً أن تدخل على أى موقع لشراء الأحذية، وستجد بعدها حسابك على الفيس بوك يحتشد بإعلانات تأتيك من كل حدب وصوب عن أحذية.
أنت مكشوف على طول الخط، وكل المعلومات المتاحة حولك، والتى تلتقطها البرامج الخبيرة أو الذكية عنك، يتم توفيرها للجهات التى يمكن أن تستفيد منها، ليسهل على هذه الجهات بعد ذلك التحكم فيك.
عن طريق لعبة الترافيك أو المرور ورصد «كليكاتك» وتحليلها أصبحت مواقع التواصل الاجتماعى تتحكم فى المستخدمين، والمدهش أن البرامج الذكية أو الخبيرة (الخوارزميات) باتت تتحكم فى صنّاع هذه المواقع.
هكذا تحولت التكنولوجيا التى صنعها الإنسان بيديه إلى وحش يوشك أن يلتهمه، ومع هذا التحول علت أصوات تنادى بتنحية مواقع التواصل الاجتماعى عن طريق البشر.