بقلم :د. محمود خليل
لم تعرف التجربة الإسلامية عبر تاريخها الممتد فكرة الحكم المؤسَّس على مبدأ اختيار الشعب لمن يحكمه، بل كان الحكم دائماً بالغلبة.
بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم، وفى سقيفة بنى ساعدة، اشتد الخلاف بين المهاجرين والأنصار، فأشهرت السيوف وكادت تقع فتنة كبرى بين المهاجرين والأنصار، لولا أن الفريق الأول حسم الأمر لصالحه، فى اللحظة التى كان عمر بن الخطاب يشهر فيها السيف.
بالغلبة تمكن «أبوبكر» ثم «عمر» ثم «عثمان» ثم «علىّ» من حكم الأمة خلال فترة الخلافة الراشدة. وبالغلبة أيضاً تمكن معاوية بن أبى سفيان من الوثوب إلى حكم المسلمين، وبالسيف أملى على المسلمين نقل الحكم من بعده إلى ولده «يزيد».
وبالغلبة زال ملك بنى أمية حين أعمل بنو العباس السيف فيهم، ثم كانت الغلبة للتتار، ومن بينهم ملوك أشهروا إسلامهم، بعدهم غلب الترك بالسيف، وتمكنوا من إقامة إمبراطورية ظلت تسيطر على العالم الإسلامى حتى الحرب العالمية الأولى.
لم يكن المسلمون وحدهم هكذا، ففكرة الإمبراطورية كانت تسيطر على العالم ككل. والجميع كان يلتمس الوسيلة الأسهل والأنجح للسيطرة، والمتمثلة فى امتلاك أدوات القوة والغلبة.. كان عصر قوة بامتياز.
الاحتكام إلى مبدأ الغلبة فى الحكم أدى إلى دفع أى مناوئ أو رافض للحكم إلى الاعتماد على الوسيلة نفسها فى مواجهة الحاكم، لذلك يزخر التاريخ الإسلامى بالعديد من حوادث الاغتيال السياسى.
اغتيل عمر بن الخطاب، ومن بعده قُتل عثمان بن عفان، ثم على بن أبى طالب، ولو تتبعت نهايات خلفاء بنى أمية فستجد أن عدداً منهم انتهت حياته بالقتل أو بالغرق أو بالسم، وقِس على ذلك نهايات الحكام العباسيين ثم التُّرك.
الشخصية الوحيدة التى حاولت أن تلقى بحجر فى ماء السياسة الراكد فى التاريخ الإسلامى، تمثلت فى عمر بن عبدالعزيز، حين أعلن بعد لحظة من صعوده إلى سدة الخلافة ترك الحكم، وقال للناس: «اختاروا لأنفسكم»، فاختاروه.
فى هذا السياق نستطيع أن نفهم رد عمر بن عبدالعزيز على «الخوارج» حين أجاب عن سؤالهم حول الطريقة التى وصل بها للحكم وهل كانت برضا الناس أم بالضغط والابتزاز، فأجابهم: «ما سألتهم الولاية ولا غلبتهم عليها».
كان فريق الخوارج يمثل أكبر الأحزاب المناوئة للحكام منذ على بن أبى طالب وخلال فترتى الحكم الأموى والعباسى، واعتمدوا هم الآخرون على فكرة الغلبة بالسيف، أراد عمر بن عبدالعزيز الحوار معهم، فى تجربة غير مسبوقة يقوم بها خليفة مسلم، لكن الخوارج وضعوه فى زاوية صعبة حين طلبوا منه أن يتبرأ ممن سبقوه من حكام بنى أمية، وكان الرجل يفهم أن التبرؤ منهم له خطره، ما دفعه إلى رفض ذلك، لكنه حاول الإصلاح بطريقته الخاصة.
اتجه عمر بن عبدالعزيز إلى خلع ولى عهده يزيد بن الوليد، بسبب ما يعلمه عنه من ظلم، ورغبة منه فى عدم فرض وريث حكم لا يرضاه المسلمون، فما كان من أسرة الحكم الأموى إلا أن دسوا عليه من سقاه سماً مات بعد ثلاثة أيام من تجرعه.
لم يمت عمر بن العزيز بسيوف معارضيه بل بأيدى أسرة الحكم.