بقلم: د. محمود خليل
لا تستطيع أن تحدد بدقة الخط الفاصل بين المتخيل والواقعى فى الأحداث التى يرويها المبدع الراحل خيرى شلبى فى «ثلاثية الأمالى»، تلك السطور الرائعة التى تحكى رحلة حياة «حسن أبوضب» الشاب الفقير الذى ارتحل من الصعيد إلى القاهرة ليصبح واحداً من حكامها أيام الرئيس السادات.
لا تستطيع أن تحدد بسهولة أين ينتهى المتخيل ويبدأ الواقع أو العكس فيما يرويه «خيرى شلبى»، فالثلاثية تحكى عن الآثار وتجارة الآثار وأنواع التجارة الأخرى التى تنمو على هامشها، بما فى ذلك تجارة المخدرات وتجارة الإرهاب وتجارة الدجل، وتكشف كيف مثلت الآثار حجر الأساس فى الثروات الكبرى التى ينعم بها النافذون داخل المجتمع، بالإضافة إلى الثروات الصغرى التى ينعم بها الصغار الذين يعملون فى خدمة كبار تجار الآثار.
تحكى الرواية أيضاً أن الآثار لم تعتقها يد، بل حاولت كل الأيدى الوصول إليها، أيدى البسطاء والمتوسطين وكبار المتنفذين، إنها أشبه بالشركة التى يحكمها عقد اجتماعى غير مكتوب بين الأطراف المعبرة عن الأيدى التى تتقاسمها.
تشير الرواية أيضاً إلى وجود نظرة يتقاسمها الكثيرون حين يطلون بأعينهم نحو الآثار باعتبارها غنيمة أو «ورثة» تركها لنا الأجداد، إنها ثروة الراحلين منذ آلاف السنين تركوها لمن سيأتى بعدهم. فكرة أن الإبداع الفرعونى ميراث حضارى اختص الله تعالى هذا البلد بحراسته ورعايته وعدم تبديده تكاد تكون غائبة تماماً.
الرواية تنقل حالة الاستخفاف بأى قيمة، التى ضربت المصريين بعد النكسة وامتدت بآثارها إلى حقبة السبعينات وما تلاها، دفعت الجميع إلى التصالح على فكرة أن أى شىء فى الحياة إذا لم يُترجم إلى قيمة مالية فإنه يُعد منزوع القيمة.
فى هذه الأجواء والسياقات انطلق سهم حسن أبوضب الصعيدى البسيط الذى دفعته الظروف البائسة التى يعيش فيها إلى أن يعتبر السرقة السبيل الذى يتوجب على الراغب فى الحياة أن يسلكه، سرق وسلب ونهب وتاجر فى الممنوعات. فى البداية كان ضميره يوجعه، لكنه كان ينسى هذا الوجع حين تنقح عليه معدته طالبة الطعام. كان عقله أيضاً يؤرقه حين يتساءل: كيف يمكن أن تكون السرقة وسيلة للحياة؟ لكن سرعان ما وجد الإجابة حين بات خادماً للكبار المتنفذين فوجدهم يتنفسون السرقة، فاقتنع بأنها باتت منهج حياة، فإذا كان الكبار أصحاب العلم والشهادات والمتكلمون فى الدين وأصحاب النفوذ يفعلونها دون أى شعور بالذنب، فعليه أن يقطع لسان عقله حين يسأل.
سار حسن أبوضب على خط الآثار، مؤمناً أن من سار على خطها وصل، كثر المال فى يده وانتقل من مصاف الخدم إلى صفوف الكبار، دخل انتخابات مجلس الشعب فى أواخر عصر السادات، وجلس مستريحاً على أحد مقاعده، وتمددت علاقاته، ومعها تمددت ثروته التى كان أصلها الآثار.
عاش حسن أبوضب طويلاً.. وفى ختام حياته بدأ يملى مذكراته على ابن شقيقته ليتركها منهجاً للآتين من بعده!