بقلم: د. محمود خليل
حول مونولوج «ماتستعجبش.. ماتستغربش» للضاحك الباكى «إسماعيل ياسين» تدور فكرة قد يكون من المفيد التذكير بها.
يتناول المونولوج أحد متناقضات الحياة التى تتمثل فى المكاسب التى يحصدها البعض بلا تعب: «فيه ناس بتكسب ولا تتعبش»، مقابل من يتعبون ولا يكسبون شيئاً: «وناس بتتعب ولا تكسبش». هذا المونولوج من أخلد ما غنى إسماعيل ياسين. جمال فكرته فى عمقها، وقدرتها على كشف إحدى عورات الواقع، والحالة الإنسانية الثابتة التى تُسلط الضوء عليها. ففى كل عصر تجدها حاضرة، بالأمس واليوم وغداً، ورغم أن كاتبها طلب من المستمع إلى المونولوج عدم التعجب أو الاستغراب من بعض الأوضاع المقلوبة، إلا أن السياق العام للمونولوج يحمل المعنى العكسى، حيث يدعو المستمع إلى التعجب والاستغراب.
لا يوجد زمان ولا مكان يخلو من «الصور المقلوبة»، لكن الصورة التى التقطها كاتب المونولوج هى الأكثر شهرة وتأثيراً لدى البشر، فقصة المال هى القصة الأم فى حياة الإنسان. والله تعالى يقول فى كتابه الكريم: «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ». لو أنك تأملت الآية جيداً فسوف تجد أن المال يُشكل محور الشهوات التى زينها الله تعالى للإنسان، فالمال هو الذى يجلب النساء، وهو الذى يساعد على الإكثار من البنين، وهو الأداة التى يحوز بها الإنسان الأنعام والحرث. والمال بما يؤدى إليه من حيازات فى الحياة هو موضع النظر بين الأوادم. فالبشر إلا القليل أحياناً ما ينظرون إلى ما فى يد غيرهم، والمال رزق شأنه شأن أرزاق كثيرة فى الحياة، وبما أنه رزق فإنه لا يتطلب حيلة، فمن الممكن بالفعل أن يبذل أى إنسان جهداً كبيراً فى سبيله دون أن يحصد منه شيئاً، ويصح أن يجرى أنهاراً فى يد قليل الحيلة أو محدود السعى فى الحياة، لكننا إذا عُدنا إلى الآية الكريمة التى ذكرتها آنفاً، فستجد أنها اختُتمت بقوله تعالى: «ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنده حُسْنُ الْمَآبِ».
إحدى مشكلات مجتمعنا ترتبط بتلك القيمة الكبيرة التى يضفيها على المال، فى وقت تُؤخر فيه قيم أخرى أكثر جدارة بأن تسبقه، وإن دل ذلك على شىء فإنه يدل على نظرة قاصرة إلى الحياة. ولو أنك تأملت أثرى أثرياء العالم فستجد أنهم تنازلوا عن جزء كبير من ثرواتهم أو كامل ثرواتهم، مكتفين بالقيمة المعنوية التى تضفيها عليهم النجاحات التى حقّقوها، عندك نموذج بيل جيتس، مؤسس شركة «مايكروسوفت»، وعندك مثال ثانٍ فى مؤسس موقع «فيس بوك» (مارك زوكربيرج). حدث ذلك فى أكثر المجتمعات «مادية»، كما يحلو لكثير من كهنة مجتمعنا وصفها، فى وقت أصبحت فيه كل روافد الثقافة فى مصر لا تحتفى إلا بتلك القيمة: «المال»، تذكر آخر المسلسلات أو الأفلام التى شاهدتها لتتأكد بنفسك. أيام إسماعيل ياسين كان ثمة توازن فى طبيعة الثقافة التى تبثّها الدراما، فقد تجد فيها ما يدعم قيمة المال، وقد تجد فيها ما يسفّه قيمته قياساً إلى قيم أخرى. ولا غرابة فى ذلك!. زمان كان طلعت باشا حرب واحداً من المهتمين بالإنتاج السينمائى، وكان هناك فنانون مؤمنون بقيمة الفن ينتجون الأفلام، أما اليوم فالوضع مختلف فى ظل سيطرة بعض رجال المال والأعمال على سوق الإنتاج السينمائى والدرامى، ومن الطبيعى جداً أن تكون عينهم على «قيمة المال» فى ما ينتجون.. ماتستعجبش.. ماتستغربش.