بقلم: د. محمود خليل
كان الشاعر حافظ إبراهيم من أكثر الشعراء المعنيين بالدعوة إلى العقلانية وترسيخ العلم بتخصصاته المختلفة داخل المجتمع المصرى، لذا فقد كان من أكثر الداعين والداعمين للتبرع لإنشاء الجامعة المصرية الأهلية (جامعة القاهرة فيما بعد)، وكان يستخدم الشعر فى حث المصريين على ذلك.
اللافت فى شعر حافظ إبراهيم هو ذلك السعى الحثيث نحو الإصلاح والرؤية النقدية التى تلف أبياته الشعرية فتكسوها بالقيمة والقدرة على العبور من عصر إلى عصر ما دام الفساد قائماً.
تجد حافظ إبراهيم فى قصيدة «العلم والأخلاق» ينتقد أداء الأطباء «الشمال» الذين يتكسبون المال من عمليات الإجهاض، ومهندسى الرى المرتشين، والمتلاعبين بالعقول من الأدباء والمفكرين.
لم ينجُ الفقهاء والمشايخ أيضاً من نقد حافظ إبراهيم، بل كان لهم نصيب موفور منه فى القصيدة الشهيرة، ولو أنك تأملت رؤية الشاعر الراحل فى هذا السياق فسوف ترى كيف يمتلك القدرة على بناء الأفكار الهادفة القادرة على عبور العصور، لتظل قادرة على تفسير الأداء العام مع اختلاف المراحل.
يتوقف «حافظ» عند واحدة من كبرى الآفات التى أحياناً ما تضرب الفقهاء والمشايخ، والمتمثلة فى نظرتهم إلى الدين كأداة لتحقيق المكاسب، واستعدادهم لتقديم الفتاوى طبقاً للطلب، إنهم أشبه بـ«الترزية» الذين يقومون بقص ولصق قطع القماش لحبك الثوب تبعاً لمقاس صاحبه، هم ببساطة «ترزية فتاوى».
يقول الشاعر: «وفقيه قوم ظل يرصد فقهه.. لمكيدة أو مستحل طلاق.. يمشى وقد نصبت عليه عمامة.. كالبرج لكن فوق تل نفاق».
فوق «أرض النفاق» يتألق نجم بعض الفقهاء، فيتحولون إلى آلات للتبرير، ظانين فى المجموع ظن السوء، ومتصورين أنه ينخدع بكلامهم وتخريجاتهم الساذجة التى يسوقونها فى سياق الدفاع عن فكرة أو موقف أو رأى.
الفارق بين خصلتى «تفصيل الفتاوى» و«النفاق» فى أداء بعض المشايخ والفقهاء أن الأولى يمكن أن تمر مثل الفتاوى التى كان يتم «توضيبها» على مقاس الملوك والأمراء أيام الحكم الملكى، أما النفاق فأمره مختلف، لأنه عادة ما يتصل بأمور تمس الواقع المعيش للناس، وبالتالى ما أسرع ما يلتفت المصرى إلى رائحة «الفتة» التى تفوح من هذه «الفتوى» أو تلك.
موقف القرآن الكريم من النفاق واضح وقاطع الدلالة، فهو يحدد جوهر صفات المنافقين فى لحن القول «ولتعرفنهم فى لحن القول» وفى القدرة على دفع الآخرين إلى الاستماع لقولهم: «وإن يقولوا تسمع لقولهم». فكلام المنافق يدعو إلى الالتفات، لأنه كلام منمق مزركش، لكنه لا يزيد عن الطبل الأجوف فى النهاية، لأنه متهافت المعنى، ضحل المضمون.
يحاول المنافق استخدام كل مهاراته فى خداع الآخرين، وينسى أنه يخادع خالقه بالأساس.. يقول الله تعالى: «إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم».
ليس كل الفقهاء والمشايخ على هذا النحو بالطبع، فعلى مر التاريخ عرف المصريون مشايخ عقلانيين لا يعرفون أى نوع من النفاق، سواء نفاق الكبار، أو نفاق المجموع المسلم، دأبوا على مواجهة الجميع بالحقيقة، لكن ذلك لا يمنع من وجود نماذج المنافقين وترزية الفتاوى ممن تحدث عنهم «شاعر النيل».