بقلم :د. محمود خليل
نظرية «المستبد العادل» واحدة من النظريات التى ظلت تسرى فى دم التجربة العربية فى الحكم منذ وفاة النبى، صلى الله عليه وسلم، ثم اتجه الإمام محمد عبده إلى التأصيل لها عقب فشل الثورة العرابية التى شارك فيها.
فى عصر الخلافة الإسلامية احتكر كل الخلفاء صناعة القرار، مع إعمال مبدأ الشورى -غير الملزمة- فى حدود ضيقة ونسبية للغاية، تمثلت فى الاستنارة برأى أهل الحل والعقد أو مجموعة الرجال المحيطين بالخليفة، والخلاف بين الخلفاء بعد ذلك كان يتجلى فى منسوب العدل، فمنهم من اشتهر به، مثل عمر بن الخطاب وعمر بن عبدالعزيز، ومنهم من بالغ فى الاستبداد، مثل بعض حكام بنى أمية وبنى العباس.
نظرية «المستبد العادل» كانت صالحة فى زمانها ولا شك، ولم يكن العرب استثناءً فيها، بل قل إن العديد من التجارب السياسية فى ذلك الزمن كانت تنحو هذا المنحى، لكن ماءً كثيراً جرى فى الواقع البشرى بعد قيام الثورة الفرنسية، وما أكدته من مبادئ للحكم تمثلت فى الحرية والإخاء والمساواة.
خبر التحول الذى شهدته فرنسا وصل إلى مصر قبل غيرها من البلدان بعد الحملة العسكرية التى قادها نابليون على البلاد. وقد تحدث «الجبرتى» عن التحول الذى طرأ على فرنسا بنوع من الاستهجان ووصف الفرنسيين بأنهم قاموا على ملكهم وعزلوه وأسسوا ما يسمى بـ«دولة الجمهور» يعنى الجمهورية.
كان من الطبيعى أن ينظر «الجبرتى» إلى التحول الذى أصاب الدولة الفرنسية بنوع من الاستهجان، بحكم إخلاصه للمذهب السنى الذى يمتعض من فكرة الخروج على الحاكم، ويعتبر ذلك نوعاً من البغى والإفساد فى الأرض واستحداث الفتن.
إذاً فكرة الديمقراطية أو حتى تفعيل المبدأ الإسلامى العتيد المتمثل فى الشورى لم يكن حاضراً فى التجربة الإسلامية حتى أوائل القرن التاسع عشر، لكن من المؤكد أن الاحتكاك بالحملة الفرنسية وما أحدثته من تغيير فى الواقع السياسى، عندما شكَّل نابليون ديواناً أهلياً يضم ممثلى الأمة من المشايخ والأعيان، وتواصل هذا النهج فى عصر الوالى محمد على، أدى إلى دفع المصريين إلى إعادة النظر فى فكرة استئثار فرد واحد بصناعة القرار.
العديد من الأفكار التى طُرحت خلال الثورة العرابية كانت مستمدة من هذه التحولات، سواء ما يتعلق بالحديث عن الدستور أو المجالس النيابية، بل والتجرؤ أيضاً على طرح فكرة التحول إلى جمهورية، وقد فكَّر «عرابى» فى إحداث هذه النقلة خلال مرحلة معينة من الثورة.
المثير فى الأمر أن حلم «عرابى» فى التحول الجمهورى بما يرتكن إليه من أدبيات سياسية تحقق بعد ثورة يوليو 1952، ورغم ذلك ظلت الفكرة التى طرحها الإمام محمد عبده حول «المستبد العادل» قائمة، بل قل إنها كانت المسيطرة على الحوار الذى دار بين ضباط يوليو وهم يفكرون فى شكل النظام السياسى الذى يحكمون به.
وتستطيع القول بأن مخيلة الضباط كانت سارحة فى شخص جمال عبدالناصر وهم يطرحون هذه النظرية، كما كان محمد على يتسكع فى ذهنية محمد عبده وهو يؤصل لها.
كأن العقل المسلم يتعامل مع الاستبداد على أنه قدر.. أما العدل فمسألة صدفة.