بقلم: د. محمود خليل
آية تحمل معنى مدهشاً داخل سورة التوبة تقول: «وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ».
رضاء المولى -عز وجل- عن الإنسان مسألة مفهومة، ولكن كيف يتأتى للمخلوق أن يرضى عن خالقه؟. جملة واحدة يمكن أن تجيب لك عن هذا السؤال هى «الرضاء بأقدار الله».
يعيش الإنسان فى الحياة طامحاً إلى العديد من الأشياء، قد يحمد ربه على ما يصيبه أو يحققه من أهداف فى الحياة، وقد يشكر ربه على ما لم يوفقه فيه، لكنه فى الحالتين لا يستطيع أن ينجو من آفة الضجر وهو يرى من هو أقل منه قدرة أو مهارة يحقق ما كان يحلم به، أو وهو يعاين الدنيا التى تعطى الهاجع والناجع والنائم على صرصور أذنه، فى حين لا تمنحه الأقدار ما هو حقيق أو جدير به.
الضجر هو الباب الذى يخرج منه الإنسان من معادلة الرضا عن ربه، والرضا بالأقدار والوعى بأن لله حكمة قد لا يدركها الإنسان فيما يحرمه المولى -عز وجل- منه مع جدارته به، وما يعطيه لغيره مع ظنه بأنه غير مستحق له.
جوهر رضا المخلوق عن خالقه يرتبط بمعادلة «وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ». تلك العبارة التى ختم بها الله تعالى الآية الكريمة التى تقول: «وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ». فالإنسان لا يدرى الخير له فى حياته فيتمناه، أو الشر الذى يرجوه بجهل فيمنعه الخالق عنه برحمته وعطفه. والله تعالى يقول: «فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً».
قدَّم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار النموذج البشرى الذى عرف كيف يرضى عن خالقه، لم يكن أى من صحابة النبى صلى الله عليه وسلم يفكر فيما سيأخذه قدر ما كان يفكر فيما يمكن أن يعطيه، لم يكن ينشغل بأذى يصيبه قدر ما اهتم بإعلاء كلمة الإيمان. كانوا يرون فى عذاباتهم ولعنات مشركى مكة لهم خيراً كثيراً، ويدركون وهم تحت ضغط الأذى أن موقف من تسلطوا عليهم ضعيف، وكلما اشتد أذاهم أدركوا أن الموقف يضعف أكثر وأكثر. لم يحلم أى منهم بدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، بل كان الخير كل الخير بالنسبة لهم أن الله تعالى اختارهم ليكونوا إلى جوار الحق.
السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار كانوا بشراً فى منتهى الرقى، تعلموا من النبى صلى الله عليه وسلم ألا يرفعوا أيديهم على من يمدون إليهم أيديهم بالأذى، كانوا يُعذبون ويطردون من ديارهم وتسلب أموالهم، ثم يدعون لمن عذبوهم أو طردوهم أو سلبوهم، وحين قاتلوا كانوا يقاتلون من أجل المستضعفين من النساء والرجال والولدان.
رضيت هذه المجموعة المصطفاة بما أعطتهم الدنيا واعتبروا العطاء ابتلاء.. وحمدوا الله على ما حرمهم إيماناً منهم بأن لله حكمة لا يدركونها.. وبذا «رضى الله عنهم ورضوا عنه».