بقلم :د. محمود خليل
الانتحار لأسباب عائلية ليس حدثاً جديداً، عرفنا هذا النوع من الحوادث التى ينتحر فيها شاب أو فتاة بسبب قسوة الأب أو الأم منذ سنين طويلة، ربما يكون هذا النوع من الحوادث قد تواتر بدرجة أكبر فى عصرنا الحالى لكن هذا لا يمنع أنه كان معروفاً من قبل، وعليك ألا تغفل أن مواقع التواصل الاجتماعى تهتم بمثل هذا المحتوى «فى سبيل الترافيك».
آخر هذا النوع من الحوادث انتحار شاب من أعلى كوبرى فى دمياط، تاركاً رسالة تقول: «انتحرت.. والسبب أبويا بلا فخر».. حوادث شبيهة تداولتها مواقع التواصل خلال الأسابيع الماضية انتحر فيها شباب وفتيات لأسباب عائلية، وصل الأمر فى أحدها إلى حد الانتحار، لأن الأم سحبت الموبايل من يد ابنتها.. رحم الله الجميع.
هناك نوع من الخلل فى العلاقة بين الآباء والأبناء خلال العصر الذى نعيشه، سرها الأساسى يتعلق بأن العقل الاجتماعى، وكذلك العقل الأسرى لم يتطورا بالشكل الذى يتناسب مع معطيات الواقع الذى نحيا فى ظلاله.
أبناء الجيل الحالى لا يعرفون قساوة الآباء، كما عرفها آباؤهم، ولو اطلع أحدهم على الطريقة التى كان يربى بها جده أباه، لظن أن من أنجبه سواه الله من حديد أو حجر كى يتحمل كل ذلك. فقد كان الآباء زمان أشد قسوة وبكثير مما هو عليه الوضع حالياً، كان ذلك هو الفكر التربوى السائد وكان يتسق إلى حد كبير مع ظروف الماضى، لكن الزمان اختلف.
الوالدان لم يعودا كما كانا فى الماضى المصدر الوحيد أو المصدر الأهم لتربية الأبناء، فهناك أطراف تشترك معهما فى ذلك، وقد تكون أشد وأكثر تأثيراً منهما. فهناك الأصدقاء فى العالم الافتراضى أو العالم الواقعى، والدور الذى يساهمان به فى بناء عقل وفكر الأبناء والبنات.
نسبة لا بأس بها من أبناء وبنات اليوم يقضون أغلب ساعات اليوم أمام شاشات الموبايل تحت سمع وبصر الوالدين، بل قل إن بعض الآباء والأمهات لا يقلون غراماً بهذه الشاشات عن أبنائهم.
سنقول إنها معطيات العصر والبيئة الجديدة التى نحيا فيها والتى فرضت نفسها على الجميع، لتصبح الشاشة وسيلة التربية للكبار والصغار.. لا بأس.. ولكن هناك سؤال: هل العقل الاجتماعى أو الأسرى تطور بنفس الدرجة التى تطور بها الواقع المحيط؟
على سبيل المثال يتعلم البنت أو الولد عبر عالم السوشيال ميديا أن العادى فى الحياة أن يكون للبنت صاحب وللولد صاحبة.. كلاهما يتعلم أيضاً أن الدراسة أو الشهادة ليست بالقيمة التى يراها الأب والأم، وأن الأهم هو المال «والشغلانة» التى تدر الربح الوفير.. كلاهما يتعلم أن العمل مع الدراسة مسألة تصالح عليها كل شباب العالم.. وأن الاستقلال عن الأسرة بعد سن 18 سنة هو الوضع الطبيعى فى الدنيا.
دعونا نشد خيطاً واحداً من الخيوط السابقة، وهو خيط استقلال البنت أو الولد عن الأسرة بعد 18 سنة إذا أرادا ذلك، وتخيل نسبة الأسر التى يمكن أن تقبل به، ولك أن تتصور أيضاً نسب الأبناء والبنات الذى سيقبلون فكرة الاعتماد على أنفسهم فى العيش بعد سن الـ18.. وستخلص بعدها إلى أننا نعانى من إشكالية تناقض مريرة بين معطيات الواقع وتركيبة العقل.
فالعقل لدينا لم يتطور بالدرجة أو النسبة التى تطور بها الواقع من حولنا.