بقلم: د. محمود خليل
ماذا ستحكى المسكينة «شروق» لرب المساكين تعالى فى سمائه؟
«شروق» هى الطفلة التى خرجت من دارها بإحدى قرى المنوفية ذات صباح فى صقيع أيام يناير، بحثاً عن 50 جنيهاً تحصل عليها من العمل فى إحدى مزارع الدواجن.. وشاء الله أن تمتطى ظهر السيارة التى سقطت من فوق معدية المناشى وابتلعت مياه النيل من فيها، ومن بينهم «شروق»، ظل جثمان الطفلة المسكينة مختفياً لمدة أسبوع، وسط دعاء أسرتها وأهالى قريتها لرب المساكين أن يحن عليهم بالعثور عليه، ليواروه التراب إلى جوار عظام آبائها وأجدادها.. كانت نار الحزن تتأجّج فى صدر أمها والجثمان الضعيف الذى استسلم للماء منذ اللحظة الأولى يتهادى متراً بعد متر، حتى قطع مسافة تزيد على 10 كيلومترات، بعيداً عن موقع سقوط السيارة، حيث طفا على صفحة الماء، طالباً الستر.
إنه الستر.. نعم.. ذلك ما ستحكيه «شروق» لربها.. فالستر هو مفتاح السنوات المعدودات التى عاشتها «شروق» فوق ظهر الحياة. تفتّحت طفولتها على دعوات أمها بالستر، سمعت دعوات الآباء لبناتهن بالستر الجميل، وأن يرزقهن الحنّان المنّان بأولاد حلال يراعون الله تعالى فيهن.. خرجت من بيتها ورفاقها بحثاً عن 50 جنيهاً.. وبعد يوم عمل شاق (فى عز الصقعة) تيسر لهم الحصول على ما يقيم صلبهم أو يبذلونه بنفس راضية لأسرهم، كى تستعين به على مواجهة أعباء الحياة.
فى ذلك اليوم، استيقظت «شروق» من نومها وهى ترتجف، فنحن نحيا أيام «طوبة».. وصقيع طوبة لا يرحم.. أحست المسكينة بالبرد ينخر جسدها النحيل، لكن متطلبات الحياة لا ترحم، نزلت إلى «الطل» وشرعت تعمل بحثاً عن الخمسين جنيهاً.. مرّ النهار وغابت الشمس، وأذن اليوم بالانتهاء، انطلقت مع الصغار الذين يعملون فى المزرعة وامتطت «النصف نقل» للعودة إلى قريتهم، وامتطت السيارة ظهر المعدية، وحدث ما حدث، وغرقت المسكينة فى النيل.
كانت تبحث عن الستر فى الحياة.. وعندما حلّت ساعتها وغادرت إلى ربها مكث جثمانها أسبوعاً كاملاً يبحث عن «الستر» حتى عثر عليها أحد الصيادين.
ستحكى «شروق» قصتها لربها -وهو بها عليم- وتقص حدوتة الانكشاف، التى يعيشها الباحثون عن الستر فى مدرسة تمنح خدمة تعليمية حقيقية تغنى عن البحث عن مال من أجل تمويل الخصوصية، وعن مستشفى يمنح رعاية حقيقية للأجساد المنهكة التى يثقلها ثمن الدواء.. وعن عمل يمنح الدخل الذى يحقّق الحد الأدنى من الستر.. وعن يد تمتد لمن قضى الخالق عليه الموت لتنتشل الأجساد وتسترها فى باطن الأرض.
لكل أجل كتاب.. ومؤكد أن «شروق» ورفاقها ممن قضوا فى مأساة المعدية صعدوا فى اللحظة التى حل فيها أجلهم.. لكنها ورفاقها عاشوا وماتوا معبّرين عن حالة وجع من الواجب أن تسترعى نظر الجميع، حتى لا يخوض غيرهم مأساتهم.
«شروق» ورفاقها رحلوا إلى ربهم.. وهو أحن عليهم من آبائهم وأمهاتهم.. وما عند الله خير وأبقى.. وإن الدار الآخرة لهى الحيوان لو كانوا يعلمون.. لكنّ أيادى أخرى كثيرة باتت مطالبة بأن تمتد إلى ملح الأرض من أشباههم حتى لا تتعدد شكاواهم المزلزلة إلى رب العباد.. وفى ذلك خطر لو تعلمون عظيم.