بقلم :د. محمود خليل
لفظ «محدود» من الألفاظ التى طفت على سطح الحياة فى مصر أيام حسنى مبارك، وكان يطرح فى سياق وصف الطبقة الفقيرة من المصريين التى كان يحب «مبارك» نعتها بـ«محدودى الدخل».
خلال العقدين الأخيرين من عصر مبارك أصبح لفظ «محدود» من الألفاظ القادرة على توصيف واقع الحال بصورة أو بأخرى. أذكر أيامها أن أحد الباحثين ابتكر وصف «حزب المتوسطين» فى سياق الحديث عن حزب الأغلبية فى مصر، فغالبية من طفوا على السطح فى مصر فى ذلك الوقت كانوا من متوسطى القدرات. قد يقول قائل: وما المشكلة فى ذلك.. فالغالبية العظمى من البشر يقعون فى إطار هذه الفئة؟.
السؤال فى محله ولا شك والحديث عن أن «المتوسطين» هم الغالبية بين البشر أمر لا يحتاج إلى جدل أو نقاش، ولكن ثمة فارقاً بين المجتمعات فى تسكين كل من «المحدودين» و«المتميزين» على خريطة إدارة الحياة. فداخل المجتمعات المتقدّمة تجد أن العمل على دفع المتميزين إلى الصفوف الأمامية على قدم وساق، خلافاً للمجتمعات النامية التى يتم تهميش المتميز فيها مع دفع «المحدود» إلى المواقع المتقدّمة.
معادلة تهميش المتميزين وتقديم المحدودين بإمكانها أن تفسر لك الكثير من أسباب التراجع داخل عالم الجنوب، وفى بعض هذه المجتمعات تتم محاصرة المتميز واستنزافه وإرهاقه بصورة قد تدفعه إلى كراهية اليوم الذى تميز فيه.
ثمة صورة مقلوبة تجدها فى مجتمعات جنوب العالم يظهر فيها المحدودون فى المواقع المهمة التى تتطلب تفكيراً وإبداعاً وابتكاراً، فى حين يقبع المتميزون فى مواقع «الشغيلة» المطلوب منهم بذل الجهد المطلوب للإنتاج أو التنفيذ، وهو جهد شديد القيمة بالطبع، لكنه لا يحتاج مبتكراً قدر ما هو محتاج لإنسان قادر على بذل الجهد، ويبقى أن إحساس «الشغيلة» بالغبن، وأنهم يلعبون أدواراً لا تتناسب مع قدراتهم قد يدفع بهم إلى الإهمال وعدم التجويد، خصوصاً أن من يسكنون فى الأدوار العليا لا يكترثون أو يقدرون على الحكم على مستوى جودة عمل، لأنهم ببساطة «محدودون».
سيطرة المحدودين على جوانب الحياة تؤدى حتماً إلى تراجع الأداء وتجريف القدرات والمقدرات داخل المؤسسات المختلفة.
لفظ «محدود» ظهر فى عصر مبارك، كما حكيت لك، لكن المعانى الحقيقية التى يدل عليها تجد جذورها فى عصر عبدالناصر والسادات، وكل ما فعله «مبارك» هو مد الخط على استقامته.
رفعت ثورة يوليو 1952 ضمن شعاراتها شعاراً يقول: «الرجل المناسب فى المكان المناسب»، لكن التطبيق كان يؤكد أن معنى كلمة «المناسب» أبعد ما يكون عن فكرة الملاءمة، بل يتعلق بالمصاهرة، يعنى هذا الرجل مناسب مين من العائلات الكبيرة؟ فالنسب مثّل الأساس فى وثوب الكثير من المحدودين على المواقع التى كان من الواجب أن يشغلها المتميزون.
ولست بحاجة أيضاً إلى تذكيرك بالدور الذى لعبته حالة الارتباك بين طرفى معادلة «الثقة/ الكفاءة» فى هذا السياق.
لن يستقيم حال مجتمع يحاصر متميزيه ويؤازر محدوديه.