بقلم: د. محمود خليل
مثّل «درس القسمة» واحداً من أكثر دروس «الحساب» صعوبة بالنسبة لأجيال متنوعة، فهو غير دروس الجمع والطرح والضرب، لأنه ببساطة يتطلب من الشخص أن يكون ملماً بشكل كامل بلعبتى الضرب والطرح، أما الجمع فلا يهم.
جيل السوشيال ميديا يجد سهولة كاملة فى مسألة القسمة، فهو لا يحفظ جدول الضرب، وربما لا يجيد خطوات الطرح، لأنه جيل تكنولوجى تتولى الآلة الحاسبة منذ زمن بعيد القيام بإجراء المسائل الحسابية بالنيابة عنه.
تكنولوجيا التواصل الاجتماعى تأسست على مفهوم القسمة، فحسابات الفيس بوك أو تويتر أو غيرهما من المواقع تعتمد على جمع الأفراد المتشابهين فى جروبات، وتُمكن صاحب الحساب من الفلترة المتواصلة لأى عضو يتنافر أو لا ينسجم مع الاتجاه العام للمجموعة عبر «البلوك».
داخل كل مجموعة تجد رأياً أو توجهاً أو اتجاهاً سائداً يلتئم حوله أغلب المنضمين إلى الحساب، وهم يتبادلون معاً لعبة التأييد والتأكيد على ما يُجمعون عليه، ولعبة النفى والاستبعاد للآراء والتوجهات والاتجاهات المعارضة. المجموعة ببساطة مغلقة على نفسها ومتعصبة لما هى عليه، وليس لديها استعداد لسماع وجهة نظر المجموعات الأخرى، بل تجد كل همها دحض ما يتبناه غيرها.
وعملية الدحض لا تأخذ فى الأغلب شكل المناقشة العقلانية أو التحليل المنطقى للفكرة أو وجهة النظر التى يتبناها الغير، بل ترتدى ثوب قصف الجبهة القائم على التسفيه، وأحياناً السب واللعن ومحاولة الاغتيال المعنوى لصاحب الرأى.
قصف جبهة المجموعة المغايرة قد يأخذ شكلاً فردياً متناثراً، أو شكلاً جماعياً عبر ميليشيا أو مجموعة إلكترونية تتولى الهجوم بشكل شامل وعبر مجموعة من التعليقات أو التدوينات المتكررة ينطبق عليها وصف «متفق عليه».
التعددية سمة من سمات المجتمعات المتنورة، لذلك فليس ثمة من بأس أن تتنوع المجموعات على مواقع التواصل الاجتماعى فى آرائها ووجهات نظرها، لكن المشكلة أن هذه المجموعات لا تعبّر عن تنوع حقيقى، بل تعكس نوعاً من الانقسام الذى ينقلب فى مراحل تالية إلى عداء، يبدأ بالتنابز بالألقاب، وربما أخذ شكلاً أخطر، حين ينتقل من العالم الافتراضى إلى أرض الواقع.
فوجهة نظر المجموعة لا تعتمد على التأسيس العقلانى، بل تستند إلى فكرة التحيز والتعصب الذى تشعله بصورة مستمرة آلة شحن لا تتوقف عن العمل، وبالتالى يصح أن نصف ما يروج على مواقع التواصل بـ«الانحيازات».
سمة أخرى أحياناً ما تظهر عند طرح الأفكار على مواقع التواصل تتمثل فى «العنصرية»، وقد تجلى ذلك بوضوح خلال فترة الانتخابات الأمريكية الأخيرة، حين اشتعلت الحرب العنصرية بين المجموعات المختلفة على مواقع التواصل، عقب مصرع المواطن الأمريكى من أصل أفريقى جورج فلويد. ولعلك تلاحظ أن لعبة «العنصرة» تأخذ أشكالاً أخرى داخل مجتمعات العالم الثالث.
فكرة المجموعة (الجروب) تُعد واحدة من أشهر سمات مواقع التواصل الاجتماعى، فالأقطاب المتشابهة من الأفراد تتجاذب، والمختلفة تتنافر، ويبدو النفور افتراضياً أو صراخياً فى البداية، لكن ما يتبعه أو يترتب عليه من انقسامات فى الرأى القائم على التحيز والتعصب المقيت قد يؤدى فى مراحل لاحقة إلى ما هو أدهى وأمر.