بقلم: د. محمود خليل
تقدم لنا الحرب الروسية - الأوكرانية نموذجاً لحالة يمكن وصفها بحالة «الردح المعلوماتى» بين كل من روسيا ومن يقف وراءها، والولايات المتحدة ومن يصطف معها.
وزير الخارجية الصينى اتهم الولايات المتحدة الأمريكية بتقديم معلومات مضللة حول موقف الصين من الحرب فى أوكرانيا.. والمسئولون داخل الولايات المتحدة ودول الغرب يتهمون روسيا والصين بحجب المعلومات عن الجمهور.
كل طرف يعتمد على معادلته الخاصة فى التعامل مع المعلومات.. روسيا والصين تعتمدان على معادلة «شح المعلومات» والولايات المتحدة والكتلة الغربية تعتمدان على معادلة يمكن وصفها بمعادلة «التلاعب بالمعلومات».
المعلومات فى الصين وروسيا حكر على السلطة التى تعد دون غيرها المسئول الأوحد عن تقرير ما يتم نشره للجمهور الداخلى أو الخارجى، وفى حالة وجود أى مصادر أخرى للمعلومات من خارج السلطة -مثل مواقع التواصل الاجتماعى- يتم التحكم فيها.. على سبيل المثال قررت روسيا خلال الأيام الأولى لحربها على أوكرانيا حجب موقع فيس بوك، ومن بعده حجبت موقع تويتر.
الروس والصينيون يمارسون نوعاً من الوصاية على العقل العام، حيث تمنح السلطة نفسها حق تحديد ما يصلح وما لا يصلح من معلومات يمكن الدفع بها إلى دائرة المعرفة العامة.تنتقد الثقافة الغربية هذا التوجه المعلوماتى، وتصف الأنظمة التى تعتمد عليه بالأنظمة المنغلقة، التى تمثل فيها السلطة بمفردها مصدر الحقيقة، والتى تعتبر بدورها أن الجمهور العام ليس فى مقدوره تحمُّل الحقيقة.
الغرب الأمريكى والأوروبى يتعاملان مع المعلومات بمعادلة أخرى هى معادلة «التلاعب».. وهى معادلة تعتمد على أدوات عديدة، من بينها التضخيم والمبالغة، بأن تنفخ فى حدث صغير غير مؤثر وتجعل منه حدثاً كبيراً مهماً، يعنى بالبلدى تجعل من الحبة قبة.
التلاعب يتم أيضاً من خلال أداة الإلهاء، عبر صرف نظر الجمهور عن أحداث خطيرة ومؤثرة فى حياتهم، وإبراز أحداث أخرى تافهة تشعل جدلاً عاماً يلهى المجموع عن الأجدى والأخطر.
يمكن أيضاً التلاعب بالعقل العام عن طريق المعلومات الكاذبة التى يتم نشرها على مستويات متسعة، وعندما تتردد الكذبة وتتكرر على الألسنة تكتسب نوعاً من القوة والقدرة على التأثير رغم عدم واقعيتها وافتقارها إلى المصداقية.
ويصح التلاعب أيضاً من خلال عرض وجهة نظر واحدة فى حدث وعدم منح وجهات النظر الأخرى أية فرصة للظهور.
إذا كان الروس والصينيون يعتمدون على «الحجب» والغرب وأمريكا على «التلاعب».. فأين تكون الحقيقة؟الحقيقة تظهر بالنقد والتحليل، ورفض التسليم الآلى بما نسمع أو نقرأ أو نشاهد.. الحقيقة تظهر فى البحث عن المعلومة من أكثر من مصدر فى زمن باتت فيه التعددية جزءاً لا يتجزأ من الحياة الإعلامية للبشر.. الحقيقة تظهر فى الاستقصاء والبحث.
هل تعرف لماذا يظل المواطن الغربى هو الأقوى فى صراعات العالم المعاصر؟.. لأنه ما زال حتى اللحظة يمسك كتاباً بيده ويقرأ.. والقراءة هى الوسيلة الوحيدة التى تربى العقل على النقد والتحليل والبحث والاستقصاء، وتحولُ دون تسليم الأذن لأول عابر سبيل يصب فيها ما يريد من معلومات.