بقلم :د. محمود خليل
أجدنا بحاجة إلى أن نتأمل مجدداً الآية الكريمة التى تقول: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا».
لنفرض أن لدينا مؤسسة يقوم بمهمة إدارتها رئيس مجلس إدارة، وتتفرع المؤسسة إلى عدة إدارات، كل إدارة يقودها مدير ويعمل فيها مجموعة من الموظفين.. ولنسأل: ما هى الضمانات التى تكفل لهذه المؤسسة النجاح فى تحقيق أهدافها؟ الإجابة بسيطة وهى تستند إلى نقطتين: الأولى تولية وتوظيف الأكفأ فى كل المواقع، والثانية الاحتكام العادل إلى اللوائح والقوانين فى إدارة وصناعة القرار وعدم ترك الأمور لهوى الأفراد. وبإمكانك أن تجد ظلالاً رائعة لهذين المبدأين فى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ».
فشل أى مؤسسة يرتبط بإهمال أى من هاتين النقطتين أو تركهما معاً. الفشل يحدث عادة عندما يتولى الجهلة وأنصاف المؤهلين مواقع الصدارة. لعلك تعلم تلك المهمة التى أوكلت إلى واحد من أشهر الجواسيس السوفيت لصالح الولايات المتحدة الأمريكية. كان هذا الجاسوس من المسئولين عن ترشيح القيادات داخل المواقع المختلفة بالاتحاد السوفيتى، وكل الذى طُلب منه أن يرشح الأسوأ من بين المتقدمين لأى موقع، بدأ الجاسوس عمله فمال إلى الأجهل والأقل موهبة والأكثر محدودية على مستوى القدرات. وبمرور الوقت بدأ الأداء يضعف فى الكثير من المواقع، وتراجعت معدلات النجاح، وأصبحت الكلمة العليا للفشل، فكانت النتيجة السقوط المدوى لكثير من المؤسسات السوفيتية. ولعلك تعلم الحديث النبوى الذى يقول: «إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظروا الساعة»، وقد جاء فى سياق إجابة النبى صلى الله عليه وسلم عن سؤال: متى الساعة؟. فأجاب: «إذا ضيعت الأمانة فانتظروا الساعة»، قيل وما أماراتها؟ فأجيب السائل بأن إسناد الأمر لغير أهله هو أكبر مؤشر على كلمة النهاية.
النقطة الثانية التى تؤدى بأى مؤسسة إلى السقوط فى بئر الفشل تتحدد فى عدم احترام اللوائح والقوانين المنظمة للعمل فيها، لأنه يعنى ببساطة أن هوى الأفراد أصبح العامل الأهم فى صناعة القرار وإدارة المشهد. الفردية تؤدى أخلاقياً إلى الأثرة والأنانية، وهو ما يفتح الباب على مصراعيه للفساد، وعملياً لا يستطيع عاقل أن يطمئن إلى رأى فرد مهما كانت عبقريته وإخلاصه لا لشىء إلا لأنه فى النهاية فرد، يخضع فى نظرته وتقييمه للأشياء لتكوينه وفكره وتجربته. القوانين واللوائح منتج جماعى يأخذ فى الاعتبار الظروف العامة وليس المزاج الشخصى، ويستفاد فى صياغتها من تجارب الآخرين على محورى الزمان والمكان، الأمر الذى يجعل الاستناد إليها أكثر موضوعية، وأضمن للحصول على قرار أكثر دقة ورشادة.
الناظر إلى تجربة بنّاء كبير مثل محمد على سيجد أنه لم يعتمد فقط على تصدير الكفاءات فى كافة المواقع، بل اعتمد أكثر على بنائها وتأسيسها ومنحها فرصاً كاملة فى العمل، كما اتجه إلى التقنين ووضع لوائح منظمة لكل مؤسسة من المؤسسات التى راهن عليها فى بناء تجربته. الاعتماد على الكفاءات واللجوء إلى التقنين مثّل أداتين أساسيتين اعتمد عليهما محمد على فى مواجهة الفساد الذى تكرس فى حياة المصريين بعد قرون طويلة قضوها فى ظل التجربة المملوكية. امتلاك الباشا لرؤية واضحة فى الإدارة الناجحة مكنه من بناء تجربة دامت لقرن ونصف من الزمان، ولم تبدأ فى الاهتزاز والترنح إلا عندما غابت عنها فضيلة الكفاءة والمؤسسية.