بقلم :د. محمود خليل
الشيخ حسن العطار واحد من علماء الأزهر المبرزين، كان يرفل فى العام الثانى والثلاثين من عمره عند دخول الحملة الفرنسية إلى مصر. مع سيطرة نابليون على القاهرة فر الشيخ حسن العطار إلى الصعيد مع مجموعة من الوجهاء، ومكث هناك لمدة تقترب من عام ونصف ثم قرر العودة إلى المحروسة (القاهرة) بعد استقرار الأمور.
أكثر ما لفت نظر «العطار» وهو يتابع أنشطة الفرنسيين فى مصر هو النشاط العلمى، فزار المجمع العلمى واحتك بعلماء الحملة، وانبهر بالشوط الذى قطعوه فى مضمار العلم، وفهم منهم الكثير من العلوم والفنون، وقطع عهداً على نفسه وهو يراقب هذا النشاط أن يدعو المصريين إلى الأخذ به، ليقيموا حياة جديدة عليه، حياة تمزج بين قيم الإسلام الأخلاقية والروحية وقيم الغرب العلمية.
ورغم انشغال الشيخ العطار بمتابعة نشاط علماء الحملة وعلومهم وفنونهم فإنه كان دؤوباً أيضاً فى متابعة تفاعل الشارع المصرى معهم، ويتعجب من أمر المصريين الذين انطلقوا إلى التعامل مع الفرنسيين بعد أن اطمأنوا إليهم، وبدأوا يتاجرون عليهم ويحولونهم إلى مادة للمكسب، والأدهى من ذلك أن قلة منهم بدأت تقلد سلوكياتهم ومسلكهم فى الحياة.
لاحظ الشيخ العطار أن المصريين تخلوا عن العديد من عاداتهم مع دخول الفرنسيين. كان أغلبهم يخشى أن يوغر صدر الفرنجة على سبيل المثال بالاحتفال بموالد الأولياء فعالجوا أمرهم بالاحتشام كما يصف «الجبرتى»، ثم بدأوا فى ممارسة هذه العادات على استحياء وبالتدرج، ففوجئوا بالفرنسيين غير ممانعين، بل ويسايرونهم فيها فتوسعوا فى إقامة الموالد والاحتفال بالأولياء وذهبوا بها كل مذهب.
حوّل بعض أصحاب الدكاكين نشاطهم فتخلوا عن عملهم التجارى بسبب كساد الحال وحولوا دكاكينهم إلى مطاعم لبيع الفطير وقلى السمك وطبخ الأطعمة والمأكولات وبيعها للفرنسيين، وحوّل آخرون دكاكينهم إلى مقاه، اختلفت فى نوعية الخدمات التى تقدمها تبعاً لقدرة زبائنها على الدفع، فبعضها كان يقدم العزف والغناء، وبعضها كان يكتفى بمنشد على الربابة، وبعضها كان يكتفى بتقديم المشروبات والدخان.
كذلك فعل من كان يملك دكاناً فى ذلك الزمان، أما الأقل قدرة من الناحية الاقتصادية، فقد لجأ أغلبهم إلى وظيفة المكارى، فكان أحدهم يشترى حماراً ويؤجره للفرنسيين ليتجولوا به فى أزقة وعطفات القاهرة وأحيائها وميادينها.
راج نشاط «الحمّارين» فى مصر فى ذلك الزمن بسبب ولع الفرنسيين بركوب الحمير لغاية أو بدون غاية كما يشير «الجبرتى»، فكان أغلبهم يمتطى ظهر الحمار بدون حاجة سوى أن يجرى به مسرعاً فى الشارع، وكانت الجماعة من الفرنسيين تنظم ما يمكن وصفه بـ«سباق الحمير».
لاحظ الشيخ حسن العطار حالة الاندماج التى بدأت تحدث ما بين المصريين والفرنسيين فى مواكب الحمير، وشاهد الوجوه وهى تبتسم وسمع أصوات الصياح والضحك والغناء الذى يختلط فيه المصرى بالفرنسى والمسخرة التى لمّت شمل الجميع، ولاحظ أيضاً الصحبة التى بدأت أيضاً ما بين الفرنسيين والمصريين فى حانات الخمر، فعلق على ذلك ببيتين من الشعر قال فيهما: «إن الفرنسيس قد ضاعت دراهمهم فى مصرنا بين حمّار وخمّار.. وعن قريب لهم فى الشام مهلكة يضيع لهم فيها آجال وأعمار».
هذه الكلمات المعبرة تشهد أننا بصدد عقل يفهم ما لدينا من قيمة تقيم صلبنا الإنسانى، وما لدى الآخر من قيمة تغيب عنا. فقد انبهر المصلح الكبير الشيخ حسن العطار بعلم الفرنسيين واختراعاتهم، لكنه نفر من سلوكهم الإنسانى ونفر أكثر من اندماج المصريين معهم فى لعبة الخمر والحمير، فى وقت كان الشاب «العطار» -فى ذلك الحين- يحلم بمصر جديدة ناهضة ومتقدمة ومتنورة وآخذة بأسباب العلم.