بقلم: د. محمود خليل
ثمة مجموعة من المشاكل التى يجدر التذكير بها، يمكن أن تسهم فى فهم حالة الرفض التى يُقابل بها الجهد الذى تبذله نخبة التنويريين فى سعيها نحو تجديد الفكر الدينى. تتعلق أولى هذه المشكلات بالعلاقة بين التنويريين والمشايخ، وموقف الجمهور العام من كلا الطرفين.
مع نشأة «الجامعة المصرية» عام 1908 بدأت أدوار النخبة المرتبطة بـ«الجامع» فى التراجع. والمقصود بالجامع هنا الجامع الأزهر. وقد ظلت النخبة الأزهرية حارسة على الأفكار الدينية التى تحلقت حولها الثقافة الموروثة، وتحددت أهم هذه الأفكار فى تكريس فكرة الطاعة لولى الأمر، والاحتشاد وراءه فيما يخوض من معارك، والرضاء بما يفرضه على الرعية من مغارم مالية، بالإضافة إلى الدفاع عن فكرة التبعية لدولة «السلطان» أو «دولة الخلافة»، وحماية فكرة الالتصاق التاريخى بين البسطاء وأولياء الله الصالحين وأهل بيت النبى.
التحول من الجامع إلى الجامعة كمركز للتعليم مثَّل المقدمة الأساسية لتراجع «نخبة المشايخ» وتصدر نخبة الجامعيين والمبتعثين إلى أوروبا للمشهد. ليس معنى ذلك بحال انتهاء دور المشايخ، فقد ظلوا جزءاً من مثلث السلطة الذى انضم إليه ضلع جديد تمثل فى نخبة الجامعيين. مجالس وصالونات الدولة المصرية الخديوية ثم الملكية ثم الجمهورية كانت تضم الطرفين معاً: «الجامعيين والجوامعيين».
توجهت النخبة المتعلمة الجديدة إلى نقد العديد من مرتكزات الثقافة الموروثة، وكان أول ما انتقدته ذلك الولع الغالب على العقل الشعبى بالدجل والخرافة والولاء المفرط للأولياء من ناحية وللمشايخ من ناحية أخرى.
اجتهد طه حسين وغيره من الكتَّاب والمفكرين فى زلزلة العديد من الثوابت التى ترتكن عليها الثقافة الموروثة، فتكاثرت دعواتهم لتحرير المرأة، وأخذوا يعيدون قراءة التراث الإسلامى وتحليل المحطات التى مر بها تاريخ المسلمين بمنهجيات وأدوات مختلفة، لم يمنحوا فيه العصمة لأحد، إلا لحوادث التاريخ الصحيحة، وقدموا صوراً بالحجم الطبيعى لشخوص الصحابة وخلفاء المسلمين بعيداً عن مبالغات الموروث الشعبى، وكان من الطبيعى أن يؤدى ذلك إلى التصادم مع نظرة التقديس التى يوليها العقل المصرى الشعبى للشخوص، وبدأت الأقلام تمتد إلى ما هو أخطر، وإذا بعلى عبدالرازق يرفض القبول بفكرة أن الخلافة أصل من أصول الحكم فى الإسلام.
«قصف الجبهة» الذى بدأ الجامعيون فى توجيهه إلى الأفكار الموروثة لم يكن له أن يمر دون رد فعل من جانب «الجوامعيين»، فانتفضوا فى المقابل يفندون منهجيات وأدوات نخبة المتعلمين فى تحليل الجذور التاريخية للأفكار الموروثة السائدة، ورفعوا يافطة الجامعة الإسلامية فى مواجهة محاولات هز الثقة بنظام الخلافة.
ليس هناك خلاف على الدور الذى لعبه مفكرو التنوير فى هز الكثير من الأفكار التى استندت إليها الثقافة الموروثة، لكن مشكلتهم الكبرى أنهم لم يتوجهوا بجهدهم إلى الجمهور العام الذى ظل غارقاً فيما هو عليه، وأنهم انشغلوا بالصدام مع نخبة المشايخ أكثر من أى أمر آخر، أضف إلى ذلك نسيانهم أنهم يخوضون معركتهم فى معية السلطة التى كانت ترضى عما يطرحونه من أفكار ما دامت تخدم أهدافهم، لكنها لا تستغنى بحال عن خدمات المشايخ الذين احتفظوا بجانب كبير من تأثيرهم على البسطاء.