بقلم :د. محمود خليل
مسألة تجديد الخطاب الدينى ليست سهلة بحال، وعندما تنزل من سماء الطرح النظرى إلى أرض الواقع فإنها تتحول من مسألة إلى «معضلة». بداية القول فى هذه المعضلة تتعلق بتعقد المفردات التى تشتمل عليها المسألة «تجديد الخطاب الدينى».. هل تتوقع أن يكون عموم المواطنين العاديين مستوعبين لمفهوم «الخطاب»؟ أظن أن بعض المثقفين -بل والمتخصصين- يحارون عندما يتوقفون أمام هذا المصطلح.
أظن أن الأفضل أن نعيد النظر فى مصطلح الخطاب ونستبدله بمفردة سهلة وبسيطة مثل «الفكر» أو «أسلوب التفكير» ليصبح حديثنا عن «الفكر الدينى» أى مجموعة الأفكار والتصورات التى يتأسس عليها تدين الفرد وتصوره لذاته ولغيره وللدنيا وللآخرة وللعبادات والمعاملات وغير ذلك من أمور يعبر عنها «التدين»، أو أن نتحدث عن «أسلوب التفكير الدينى» بما يشتمل عليه من طرق لتناول النصوص الموروثة بصورة تتسق مع روح العصر، والقناعة بأن لكل عصر استخلاصاته، ولكل جيل طرقه فى التفاعل مع هذه النصوص.
ثم تعالَ إلى مفردة «التجديد» وستجد أن لها معنيين مختلفين: أحدهما لدى النخب ويعنى ببساطة إنتاج فكر بديل لفكر الإرهاب والتطرف، من منطلق أن تصاعد الدعوة إلى التجديد عادة ما تتوازى مع صعود الطلب على هذا النوع من الفكر.. المعنى الثانى وهو المعنى الجماهيرى للتجديد والذى يعنى ظهور شخص قادر على تجديد شباب الأمة وإعادة الإسلام والمسلمين إلى سابق أمجادهم. مفهوم التجديد لدى النخبة هو مفهوم نظرى تجريدى، أما الجمهور فيتبنى مفهوماً مادياً واقعياً، يجسد التجديد فى شخص قادر على استعادة عنصرى القوة والعظمة والسيادة، بصورة تعكس الهزيمة التى توارثتها أجيال المسلمين منذ عصر الاستعمار الغربى وحتى اللحظة.
الجماعات المتطرفة تلعب طبعاً على المفهوم الجماهيرى للتجديد وتغذيه وتحاول أن تقدم نفسها كمخلص للأمة، وكهنتها على أنهم المجددون الحقيقيون للدين!.
والتجديد -كما يفهمه الكثير من الناس- له وجه ماضوى، بمعنى العودة إلى «الزمن الأول» للمسلمين، من منطلق أن هذا الزمن هو المعيار الذى يقاس عليه، ولا يلتفت المسلم البسيط إلى أن أفكاره وتصوراته عن هذا الزمن مجرد خيالات شعبية، يمكن أن تهتز بعض الشىء لو راجع أى كتاب من كتب التاريخ «الخام» الذى يحكى وقائع ما حدث بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم، حين حكمت قيم الدولة وتراجعت قيم الدين عدة خطوات إلى الوراء. أما التجديد لدى النخبة فذو وجه مستقبلى، لذا أفضل أن تستخدم مفردة «تطوير» فى التعبير عنه.
انتقل بعد ذلك إلى المفردة الأخطر وهى مفردة «الدين»، فالبعض يظن أو تصور له الآلة الإعلامية الإخوانية أن التجديد يعنى العبث بالدين، ولا يجد هذا البعض من يجتهد فى إفهامه أن المسألة تتعلق بالأفكار والمعانى الخاطئة والمحرفة التى يحاول البعض الترويج لها فيما يخص بعض المفاهيم الدينية، وليس بثوابت الدين، وبجوانبه الإلهية، بل فقط ببعض الاجتهادات والنتاجات التى قدمها بشر لا يوحى إليهم، بل اعتمدوا على الاجتهاد الملائم لعصرهم، والمجتهد قد يخطئ وقد يصيب.
لماذا لا نفكر مبدئياً فى أن نطور عبارة «تجديد الخطاب الدينى» إلى «تطوير الفكر الدينى»؟ وإذا كان شعبنا الطيب يردد أن «كل عصر وله أدان» والأذان جوهر الصلاة، فقد يتقبل فى المقابل أن كل عصر وله «فكره الدينى»، وأنه لا يوجد طريق واحد إلى الله بل طرق بعدد البشر وعدد العصور التى تلاحق عليها البشر.