بقلم :د. محمود خليل
خرج المصريون من حرب أكتوبر فرحين منتشين بعودة الروح والكرامة إليهم، لكنهم دخلوا بعدها فى نوبة توهان طاش معها العقل.
عبارة «الناس مخبوطة على دماغها» كانت رائجة فى ذلك الوقت. فقد كان هناك أمل فى أن يؤدى الخلاص من عبء النكسة إلى إيجاد معطيات لحياة جديدة، تعوض الناس عن فترة المعاناة الجسيمة التى عاشوها لسنوات متصلة منذ 1967، وحتى عام 1973، لكن العام التالى حمل لهم مفاجأة جديدة غير سعيدة.
فى عام 1974 صدر قانون الانفتاح الاقتصادى الذى فتح الباب واسعاً أمام الاستثمار العربى والأجنبى، وأتاح الفرصة كاملة أمام رأس المال الخاص، ليعمل إلى جوار القطاع العام لتدوير عجلة الاقتصاد المصرى.
منذ الستينات وحتى منتصف السبعينات شحّ الكثير من السلع فى الأسواق المصرية: الزيت والسكر والأرز وحديد التسليح والأسمنت. كانت الأسعار زهيدة، لكن السلعة غير موجودة، إلا فى السوق السوداء، حيث تُباع فيه بأضعاف ثمنها.
تراكمت ثروات فى جيوب تجار السوق السوداء، ومن بعدهم دخل على الساحة أصحاب الجيوب الثقيلة من تجار الآثار، وأباطرة الموانئ والجمارك، وتجار الأراضى والعقارات، وتجار المخدرات، وبدأوا رحلة الاستيراد، وامتلأت الأسواق بالسلع، لكن جيوب قطاع كبير من المصريين كانت خالية، ومن أجل ضرب الأسعار لجأ التجار إلى استيراد السلع والأغذية الفاسدة التى سمّمت أجساد المصريين.
انفجر الموقف فى يناير 1977، وجد السادات نفسه فى مواجهة الشعب. لم يهتم لحظتها بتحليل موقف طبقة الحكم، بل طارد أشباحاً وهمية وصفها بالمعارضة، فكر فى لحظة فى مواجهة الجميع، لكن لم يرد على باله أبداً مواجهة طبقة الحكم.
فى كل دولة، وكذلك فى كل فترة من فترات التاريخ توجد «طبقة حكم» تعيش نوعاً من «التهيؤات»، تتخيل فيها أنها حلت مشكلات الناس، وتسلق المجموع بلسان حاد حين لا يعبر عن حمده وشكره لما فعلوه.
طبقة الحكم فى السبعينات -شأنها شأن طبقات الحكم فى كل زمان ومكان- كانت تجلس فى القصور المخملية، تمتد أمامها الموائد السلطانية، يأكلون ويشربون ويمرحون، وعندما تصل إلى أسماعهم صرخات الناس، كانوا يصابون بنوبة عجب من هذا الشعب الذى لم يكن يجد قطعة صابون المواعين، ووفّرت له الطبقة الصابون أبوريحة، وأتاحت له أجود أنواع السلع التى يتعيش عليها المواطن فى أوروبا والدول المتقدّمة.
لم تكن طبقة السبعينات تلتفت إلى أن تجارة الأراضى والعقارات، وألعاب الجمارك، وباب الاستيراد المفتوح لا تصنع اقتصاداً، بل تصنع رواجاً لطبقة هى طبقة الحكم والدائرة المحيطة بها والمستفيدة منها.
إنها المعادلة القديمة المتجدّدة التى تميل فيها طبقات الحكم إلى المجهود الأقل (القائم على الاستهلاك الخدمى) وتنأى عما يتطلبه الاقتصاد الحقيقى من جهد فى الزراعة والصناعة والسياحة وإنتاج السلع التصديرية.
الشىء الوحيد الذى نجح الشعب، وليس طبقة الحكم، فى تصديره إلى الخارج ليشكل أهم مصدر للعملة الأجنبية فى مصر هو العمالة المصرية فى دول العالم المختلفة.