بقلم :د. محمود خليل
عروسة المولد النبوى الذى نحتفل به اليوم تعود بجذورها -كما تعلم- إلى العصر الفاطمى. والفاطميون طائفة من طوائف الشيعة التى تعتنق المذهب الإسماعيلى.
ويؤكد الكثير من المؤرخين أن غالبية المصريين لم يعتنقوا هذا المذهب خلال الحقبة الفاطمية، ولم يجهر بالإيمان به سوى العناصر التى تعاونت مع الفاطميين، ممثلة فى الأقليات الأجنبية التى جاءت فى صحبتهم، ويؤكد «ابن الأثير» أن المصريين لم يكترثوا بإسقاط التشيع فى مصر على يد «صلاح الدين»، ويقول إنه «لم ينتطح عنزان» حين قرر «صلاح الدين» رفع الخليفة الفاطمى من خطبة الجمعة والدعاء للخليفة العباسى.
لكن يبقى أن التأثيرات الثقافية للدولة الفاطمية ما زالت باقية فى الطقوس والعادات والتقاليد المصرية حتى يوم الناس هذا، وهى تكاد تكون -وخصوصاً الطقوس الاحتفالية- عابرة للأجيال.
لقد احتفظ المصريون بـ«التفطم»، إذا صح التعبير، لكنهم لم يقبلوا بفكرة التشيع طيلة قرنين من الزمان، ومن تشيع منهم حينذاك خلع عن نفسه الرداء الإسماعيلى بمجرد نجاح صلاح الدين فى إسقاط الدولة الفاطمية.
قد يكون من المفيد فى هذا السياق أن نراجع بعض المعلومات التى وردت فى الدراسة التى أعدها «صالح الوردانى» تحت عنوان: «الشيعة فى مصر». ويشير فيها الكاتب إلى أن مصر احتفظت ببعض الأفكار والممارسات المرتبطة بالتشيع بعد إنهاء الحقبة الشيعية، وما زالت هذه الأفكار والممارسات تظهر فى حياة المصريين فى بعض الأحيان، من بينها الحركة الصوفية التى عكست فى بداية ظهورها بعد انهيار الدولة الفاطمية تطبيقاً لمبدأ «التقية»، فقد تذرع المصريون بالتصوف من أجل الهروب من بطش صلاح الدين بالشيعة، فأظهروا «التسنن» رغم أنهم يضمرون التشيع، وبمرور الوقت تحول التسنن من مجرد ادعاء إلى حقيقة على يد الأبناء والأحفاد.
وهناك تجمع للأشراف فى مصر الذين يرون أنهم ينتسبون إلى ذرية على بن أبى طالب، رضى الله عنه، ويطلق على نقابة الأشراف «نقابة الطالبيين»، ومن نسل الأشراف جاء الزعيم أحمد عرابى الذى قاد الثورة العرابية فى مصر.
وهناك الاحتفالات التى عرفتها مصر فى الحقبة الشيعية، مثل الاحتفال بمولد النبى صلى الله عليه وسلم، وذكرى عاشوراء، وليلة النصف من شعبان، ورأس السنة الهجرية.
من الضرورة بمكان التفرقة بين أمرين، أولهما محبة المصريين لأهل البيت، وموضوع التشيع. فمحبة أهل البيت تقليد وممارسة ترتبط بالمسلمين كافة، ربما كان الأمر أكثر توهجاً لدى المصريين بحكم تاريخ أهل البيت ووجودهم إلى جوارهم عبر فترة زمنية طويلة، لكن ذلك لا يعنى بحال تبنى مجموعة الثوابت الفقهية التى يمتاز بها المذهب الشيعى، مثل الاعتقاد فى الأئمة وعصمتهم، وتبنى موقف سلبى من الشيخين أبى بكر وعمر، ويبدو الأمر عكس ذلك تماماً، فالمصريون المحبون لأهل البيت، يرون فى أبى بكر الصديق -رضى الله عنه- نموذجاً للصدق والإخلاص والإيثار والتضحية، ويجدون فى عمر بن الخطاب -رضى الله عنه- نموذجاً للحاكم العادل، وما أكثر ما يستدعون حكايات عدله، الصحيح منها والملفق.
أما تمسك المصريين ببعض الطقوس الموروثة عن العصر الفاطمى والتى يظهر فيها النفَس الشيعى، فيظهر كجزء من تركيبة الشخصية المصرية المحبة للحياة، وكثيراً ما تعبر عن هذه المحبة بالاحتفاء والولع بطقوس البهجة!