بقلم: د. محمود خليل
مثل مصرى شائع يقول «ربنا بيسلط أبدان على أبدان». وهو لا يعنى بحال أن الناس تتحدث بلسان الخالق العظيم، بل ينقلون من خلاله وعيهم بتجارب الواقع ومشاهدات الحياة التى تدلل فى كل لحظة على أن الله تعالى ينتقم من الظالمين بالظالمين. يقول الله تعالى: «وَكَذَلِكَ نُوَلِّى بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ». والمعنى واضح فى الآية الكريمة فالخالق يسلط الظالمين على الظالمين ليأكل بعضهم بعضاً، وبالتالى يعاقب منظومة الظلم بأكملها.المثل الشهير كما يظهر من محتواه يرتكز على فكرة وجود فريقين يتنافسان على الهدف نفسه، ويتساويان فى درجة الظلم التى يريدان بها تحقيق الهدف. ومن عجب أن تجد الفكرة التى يتأسس عليها المثل تعد إحدى خلاصات العصر المملوكى أيضاً، ومن خلالها أعاد المماليك إنتاج أنفسهم داخل المشهد السياسى بعد دخول العثمانيين مصر.المسألة بدأت بلعبة لعبها سليم الأول على المماليك بعد أن دخل مصر، حين أتى بشابين من أبناء أحد أمراء المماليك، وهو الأمير «سودون الجركسى»، وقرر أن يعقد بينهما مباريات يتنافسان فيها على ركوب الخيل والعدو والدوران بها، وإلقاء الرماح، واللعب بالسيوف من فوقها، ومن يثبت أنه أكفأ من الآخر يفوز بجائزة سلطانية. خلبت الفرجة عقل المصريين، فانقلبوا بين عشية وضحاها إلى فريقين، أحدهما يشجع الشاب الأول: الأمير ذوالفقار، والآخر يشجع الشاب الثانى: قاسم الكرار. ويتميز أنصار كل أمير -من المماليك- بزى بلون معين، فالأبيض لون «الفقارية» والأحمر لون «القاسمية»، والجمهور يأكل بعضه بعضاً بسبب الانحياز لهذا اللون أو ذاك.المنافسة الرياضية بين المماليك الفقارية من جهة والمماليك القاسمية من جهة أخرى تحولت إلى صراع سياسى عنيف، فى فترة يصعد الفقارية فينتقمون من القاسمية، وفى أخرى يحدث العكس فيركب القاسمية. لم يكن الجمهور من أولاد البلد يستفيد من هذا الفريق أو ذاك شيئاً، فكلاهما كانا يمارسان مع الأهالى بنفس الدرجة من الظلم، لذا فقد وجدوا أنفسهم يرددون «ربنا بيسلط أبدان على أبدان»، وهم يشاهدون انتقام كل فريق من الآخر حين يظهر عليه.ظلت أبدان المماليك مسلطة على بعضها البعض على مدار ما يقرب من ثلاثة قرون حتى وصل بنا قطار التاريخ إلى عصر التنافس بين مراد بك وإبراهيم بك أيام الحملة الفرنسية، ثم التنافس بعد خروج الحملة بين محمد بك الألفى وعثمان بك البرديسى. طيلة هذه القرون ظلت إسطنبول تستنزف الثروة العقلية والحرفية للمصريين عن طريق نقل أرباب الكثير من الصنائع من مصر إلى الأستانة ما أدى، كما يذهب الجبرتى، إلى فقد مصر أكثر من 50 صناعة. وفى الوقت نفسه غرق العقل العام فى الانقسام ما بين «الأحمر والأبيض»، وعندما يعانى الظلم يتوجه إلى ربه بالدعاء بأن يسلط الظالمين على الظالمين، دون أن يدرك أنه جزء لا يتجزأ من معادلة الظلم!