بقلم :د. محمود خليل
مثل لطيف يردده المصريون «الحجر الداير لا بد عن لطّه»، ويقال بمناسبة وقوع الشخص فى مأزق، وهو الذى كان ينظر إلى نفسه على أنه أبعد ما يكون عن أن يناله الواقع بأى أذى، ويظن من حوله فيه ذلك أيضاً.
أيام الخديو إسماعيل ظهرت شخصية مثيرة للجدل بصورة خطيرة، هى شخصية «إسماعيل صديق» أو «إسماعيل المفتش» -كما لقبه معاصروه- وهو شقيق الخديو فى الرضاعة، وتولى بمجرد اعتلاء الخديو سدة الحكم مهمة التفتيش على الأقاليم البحرية، وبدأت مهامه فى التوسع بمرور الوقت، فأصبح فى مقدوره تعيين من يريد وعزل من يرغب فى جميع الأقاليم المصرية.
أصبح المفتش وزيراً للمالية، بالإضافة إلى إشرافه على العديد من النظارات الأخرى، مثل الداخلية، بات الرجل الأهم فى مصر بعد الخديو إسماعيل.
فى عهد وزارته للمالية زادت الديون على الخزينة الخديوية، وألقى الخديو بالمسئولية عليه، وقرر التخلُّص منه، وهو ما حدث بالفعل حين أركبه سفينة فى النيل مع عدد من حراسه، ليتم التخلُّص منه فى مياه النهر الخالد، بعد سنين قضاها حجراً صلداً صلباً لا يحلم أحد بلمسه، فما بالك بـ«لطّه»، وليصبح مثالاً لامعاً على المثل المصرى الشهير: «الحجر الداير لا بد عن لطه».
نماذج أخرى عديدة تجدها شاخصة فوق سطور التاريخ، وكذلك فى أحداث الماضى القريب، لشخصيات ظنت أنها بمنأى عن تحولات الزمان وتقلباته، لو تأملتها جيداً ستخلص إلى مجموعة من الخصال التى تجمع فيما بينها.
من هذه الخصال على سبيل المثال «الاغترار بالجاه والنفوذ». فالبعض يغره لمعان المنصب وأضواؤه ويمنحه إحساساً زائفاً بامتلاك السر الأعظم للقوة، يرى الصغار من حوله يسكبون عليه آيات التبجيل والتعظيم والتفخيم، دون أن يستوعب أن لسان الصغير دائب على إفراز عصارة النفاق بشكل آلى تلقائى. أمام ذلك يداخل الشخص إحساس وهمى بأنه امتلك أدوات القوة، دون أن يفطن إلى نسبية الأشياء فى هذه الحياة، ومن بينها ذلك الشىء الذى يطلقون عليه القوة.
السمة الأخرى لأصحاب شخصية الحجر الداير تتمثل فى القدرة على الكذب على الذات وتصديق أكاذيب الآخرين، فالكذب على الذات سمة الشخص الذى يريد أن يقنع نفسه أنه الأكفأ والأقدر، وأن من يلوم عليه هذا الأمر أو ذاك إما جاهل أو حاقد أو موتور، فيصم سمعه عمن ينصح له، ويعطى أذنه لمن احترفوا إنتاج الأكاذيب، أو إسماعه ما يريد سماعه من كلمات.
الخصلة الثالثة لهذا النوع من الشخصيات تتمثل فى «طول الأمل»، فعندما يطول الأمد بإنسان فى موقع معين تزداد حبال العشم فى الاستمرار استطالة.
الزمن إلى تحوّل، والظروف إلى تغيّر، وعلى الشخص أن يستوعب أن كل بدء وله ختام، ولكل بداية نهاية، وما أروع الحكمة فى قول المصريين: «قال يا مستكتر الزمن أكتر».
الزمن قادر على هزيمة الجميع.. والعاقل من يفهم أنه ذرة سابحة فى فلك، وعندما تستوفى دورتها تخرج عن المدار لتغرق فى بحار المجهول.. وسبحان من له الدوام.