بقلم :د. محمود خليل
رغم ما أفرزته التكنولوجيا من تحولات محسوسة فى الحياة الاجتماعية للمصريين، فإن «القعدات الخاصة» لم تزل إحدى الأدوات التى تعتمد عليها الغالبية فى التواصل الدافئ، وبث الهموم، والتنفيس عن النفس.
قد يقول قائل إن حدوتة «القعدات الخاصة» منحصرة فى جيل الكبار، وإن الأجيال الجديدة تميل إلى التواصل الافتراضى بالدرجة الأكبر، وإن الشيطان الصغير الذى يطلقون عليه الموبايل أصبح الأداة التى يعتمدون عليها فى التجمع والتواصل.
لا نستطيع بحال إغفال دور أدوات التكنولوجيا، ليس لدى الأجيال الجديدة وفقط، بل بين أجيال الكبار أيضاً، فقد وفّرت أداة للتواصل الدائم غير المحكوم بمكان أو زمان، لكن بالنسبة لكل الأجيال لم تزل القعدات الخاصة والتواصل الإنسانى الدافئ ممارسة اجتماعية مهمة، يحرص عليها كل من يستطيع الاندماج فيها.
قعدات الكبار الخاصة مدارها بث الهموم، وتبادل الشكوى من الأولاد، واجترار الذكريات، واستدعاء صور الماضى الجميل، الذى يكتسب جماله من كونه عبر وفات، فالعابر والفائت جميل لأنه لن يعود ثانية، أما القائم والمعاصر فشره مستطير لأنه لم يزل يكبس على الأنفاس، بالإضافة -بالطبع- إلى تبادل الحديث عن الأمراض والأدوية، وأحياناً ما يتطرق إلى الأوضاع العامة، لكنه سرعان ما يعود إلى مربع «الفضفضة الشخصية».
قعدات الشباب أيضاً لها أجندتها، وغالباً ما تسيطر عليها الأحاديث عن الصاحب والصاحبة، وبث المشكلات الأسرية الناتجة عن خلافات بين الآباء والأمهات، وتحظى أحلام الشراء بحضور واضح فيها، خصوصاً شراء الموبايلات واللبس والأكل والشرب وخلافه، أحياناً ما تظهر الأمور الدراسية وطموحات المستقبل على أجندة قعدات الصغار، لكن الملاحظ أنها لا تحظى من جانبهم باهتمام كبير.
على مستوى نبرة الحوار، يغلب الصخب على قعدات الكبار، فلم يعد شىء يهم، والتعب يدفع بصاحبه إلى رفع الصوت، لأن الحنجرة باتت الأداة الوحيدة القادرة على العمل بكامل قوتها، أما بقية أعضاء الجسم فتضعضعت.
أسلوب الحوار فى قعدات الشباب يتراوح بين الصخب والهمس، فأحياناً ما تعلو الأصوات حتى تغالب بعضها البعض خصوصاً فى المواقف المضحكة، وأحياناً ما يغلب عليه الهمس عند تناول العلاقات العاطفية، أو المشكلات الأسرية، لأن الجيل الجديد لم يزل يحتفظ بنفس تصور الجيل القديم حول هذه الأمور ويعتبرها «عورة» تستوجب الهمس عند ذكرها.
الضحكة حاضرة فى قعدات الكبار والصغار. ويغلب عليها فى قعدات الكبار الضحك البائس، وهو نوع من الضحك يستجلبه الفرد من داخله استجلاباً، وأساسه السخرية من الذات أو السخرية من رفقاء القعدة، أما قعدات الصغار فيسيطر عليها الضحك الفارغ، لسبب ولغير سبب، فالضحك بالنسبة للصغار أحياناً ما يكون مطلوباً لذاته، وموضوع الضحك لدى الصغار يكون على الذات أو على أحد رفقاء القعدة فى حدود ضيقة، أما أغلبه فيتعلق بأشخاص من خارج القعدة.
ويبقى أن القاسم المشترك الأعظم ما بين قعدات الكبار وقعدات الصغار هو التجهم المفاجئ الذى يغلب على الوجوه بغتة، لتختفى الضحكة، ويسكت الكلام، وترتسم أمارات الحزن الدفين على الوجه، وتغيب الضحكة.. تُرى لماذا؟